*
الاحد: 07 ديسمبر 2025
  • 30 أكتوبر 2025
  • 14:13
الكاتب: عماد داود

خبرني - في عصر يزداد فيه البشر عددًا كما يزداد الفطر بعد المطر، فيما يتقلص العقل كما تتلاشى مياه الجدوى في صحراء الضجيج، تتراجع الحمير كما لو أن الكون قرر أن يستبدل الصبر بالضجيج، والوفاء ببيانات صحفية وتصريحات وتغريدات براقة تفوح منها رائحة الطموح واليأس.
أمس، قال نقيب الفلاحين المصري إن الحمير تحمل فوائد نفسية، وإن أطباء إسبانًا لجأوا إليها في الغابات لتخفيف التوتر أثناء جائحة كورونا، بدعم من منظمة اسمها:  "الحمار السعيد".
تأملت الخبر فابتسمت: نحن نذبح الحمير لنستخلص جلودها لعقاقير باهظة، ونحلب أتانها لنصنع من حليبها أفخر أنواع الصابون والكريمات، كل ذلك لمعالجة التوتر الذي كان الحمار نفسه يداويه بصمت!.
إنها عبقرية البشر: يستهلكون من يعالجهم، ويبيعون ما كان مجانيًا.
الحمار مسالم، ذكي، صبور، وفي، وهي صفات نادرة اليوم بين البشر. هو لا ينافق، ولا يرتدي قناع الفضيلة، ولا يصوغ تقارير لتبرير زلاته، ولا يرفع شعارات تنمية فارغة.
لا يجامل أحدًا، ولا يكتب بيانات لتبرير أخطائه، ولا يرفع رايات تدعي الازدهار الزائف.
لا نفاق، لا رياء فضيلة، لا تقارير بلا مضمون، ولا شعارات وهمية—مجرد وجود صامت لا يقبل المساومة.
تذكرت توفيق الحكيم في: "حماري قال لي"، حيث كان الحمار فيلسوفًا أعظم من صاحبه، يعلم معنى الكرامة والرضا والبساطة.
وتذكرت علي شريعتي في: "النباهة والاستحمار"، حين فرّق بين من يُستحمَر قهرًا ومن يختار الاستحمار طوعًا.
اليوم أُضيف صنفًا ثالثًا: "الاستحمار الفاخر": اشتراك شهري مع بطاقة عضوية وهاتف وتطبيق ذكيين!

في الرواية الحكيمية، قال الحمار لصاحبه: "أنت تركبني لتصل، وأنا أحتملك لتبقى واقفًا."
اليوم، الإنسان يركب كل شيء من القيم إلى الحقيقة وصولًا إلى وهم القوة، ليصل إلى لا شيء.
الحمار لا يخترع قنبلة، لا يسرق، لا يبيع ضميره، كل ما يفعله هو أن يكون مفيدًا بصمت، بينما البشر يبدعون في صناعة الخراب والدمار، ويهدرون الموارد والحياة، وتتحول المدن إلى ساحات نعيق سياسي لا ينتهي، كما في "غزة" حيث القصف المستمر والوعود الفارغة لا توقف الألم، ويظل المدنيون وحدهم يشهدون على فشل كل الخطابات، بينما الحمار، في صمت، يواصل دوره في الحياة اليومية، رمزًا للوفاء والصبر الذي فقده الإنسان.
ربما جزرة صغيرة كانت أم كبيرة أو حفنة تبن تكفيه، فيرضى ويواصل العمل، بينما الإنسان يطلب العالم كله ويشتكي من ضيق الوقت وانعدام الطمأنينة.
في هذا العالم، غابت أصوات الطيور الصافية وحلّ نهيق الميكروفونات مكانها، وغاب الصدق وحلّ التظاهر والرياء.
الحمار لا يستخدم الوسائل الاجتماعية ولا يلتقط سيلفي، لكنه يفعل الخير أكثر من أي خطاب مدروس أو اجتماع رسمي.
اليوم، عدد الحمير 44 مليونًا، بينما البشر أكثر من ثمانية مليارات.
هل هو تطور؟ أم انقراض للأخلاق؟
ربما أدركت الحمير أن الكوكب لم يعد صالحًا لها، فانسحبت برفق، تاركة المجال لمنافسين أكثر ضجيجًا وأقل نفعًا.
ولو عقدت الأمم المتحدة مؤتمرًا للأخلاق، لكان الحمار رئيس الجلسة بلا منازع، وكنا نحن كــ "دراسة حالة".
ربما آن الأوان أن نتعلم من الحمار: كن مفيدًا حين تستطيع، واصمت حين لا تستطيع، واعمل بلا رياء.
وأعجب من ذلك كله، رغم "إن أنكر الأصوات لصوت الحمير"، يبقي صوت الحمار أصدقها، أما الإنسان، فكلما ازداد صوته، ازداد نشازه!

 

مواضيع قد تعجبك