خبرني - في بيروت، التي كانت مسرحا لزياد، أغنيته، ونكاته وسخريته المرة، صمتت الشوارع، خفتت الضوضاء، وانحنت المدينة بكل تناقضاتها أمام نعش واحد، حمل جسدا وترك خلفه ظلا ثقيلا من الذكريات والموسيقى والجدل.
لكن المشهد الذي سيتردد طويلا في وجدان الناس لم يكن في الكلمات، بل في الوجوه.
ظهرت السيدة فيروز، بملامح لم تر منذ سنين، توشحت بالسواد والحزن، ولم تكن بحاجة إلى قول شيء. كانت نظرتها نشيد الوداع، وصمتها أبلغ من كل رثاء.
هي الأم، الأسطورة، المرأة التي ودعت ابنها، رفيق ماضيها وامتداد عبقريتها، في مشهد بدا وكأن الزمن توقف فيه لحظة واحدة، ثم انكسر... ودعت ابنها كما يودع الخريف زهرته الأخيرة… بصمت يوجع أكثر من أي عويل.
بدت كأنها تمشي على نغمات أغنيتها سألوني الناس عنك يا حبيبي، ودمعتها تردد بصمت راحوا، متل الحلم راحوا.. حن وابكي يا تلج صنين وتوجعوا ع الشوك يا حساسين بليل عم بيغيب مصباحو راحوا كلهن راحوا.. ومضت كأنها تهمس لولدها انا لحبيبي وحبيبي الي.
جاء الفنانون، والمثقفون، والسياسيون، ومن لا يتفقون مع زياد ولا مع خياراته، لكنهم وقفوا بقلوب منكسرة، كأنما اتفقوا جميعًا على احترام لحظة الموت، والاعتراف بأن زياد، بما له وما عليه، كان شيئًا لا يتكرر.
رأينا خصوم الأمس يتقاسمون لحظة الحزن مع أصدقائه، كأنما الجنازة لم تُخرج فقط جثمان زياد، بل أخرجت ما تبقى من وجدان حي في هذا الشرق...
ركعت ماجدة الرومي بين يديها في مشهد يكاد يكون خارجا من خشبة مسرح رحباني، لا من جنازة... ركوع فيه شيء من الحب، وشيء من الاستسلام… ركعت ماجدة إجلالا… انحناء الكبار للكبار، في حضرة حزن لا يقال.
لم تكن جنازة فنان… بل وداعا لصوت صاخب، لذاكرة حرة، ولعقل لم يعش يوما على التصفيق.
يا فيروز، أجراس العودة لم تقرع بعد… فالصمت اليوم هو انتظار، والغياب هو وعد بأن اللقاء قادم، وأن الموسيقى التي تركها زياد ستظل تردد نداء الحياة والأمل في قلوبنا جميعا.
ومن هنا، من الأردن، أرض العزم، نرسل أحر التعازي إلى صوت الوطن الكبير، إلى فيروز التي علمتنا أن الصبر عزيمة، وأن الفقد باب للحياة، وأن رغم كل الألم، يبقى الأمل شعلة لا تنطفئ.




