خبرني - لم يكن قرار الحكومة الأردنية بحل جميع المجالس البلدية والمحلية دفعة واحدة قرارًا إداريًا عابرًا، بل مثل لحظة مفصلية تستوجب الوقوف عندها، لا من باب الاعتراض السياسي، بل من زاوية قانونية محضة تتعلق بحدود السلطة ومرتكزات المشروعية. ذلك أن هذا القرار لم يصدر بحق مجلس بعينه بناء على تقصير واضح أو إخفاق موثق، بل جاء شاملًا عامًا، متجاوزًا الفروقات في الأداء، ومفتقدًا للتسبيب الفردي الذي نص عليه القانون صراحة. ومن هنا فإن التساؤل حول مدى قانونية هذا القرار وانسجامه مع نصوص قانون الإدارة المحلية وروحه يصبح تساؤلًا مشروعًا، لا بل ضروريًا، خصوصًا في ظل ما تبقى من عمر المجالس من مدة قانونية تقارب السنة والشهرين، وما يترتب على القرار من آثار مباشرة على بنية التمثيل المحلي وفكرة اللامركزية التي تبناها المشرع الأردني.
ذلك أن الانتخابات البلدية واللامركزية الأخيرة قد جرت بتاريخ 22 آذار 2022، وشكّلت بداية الدورة القانونية للمجالس البلدية والمحلية ومجالس المحافظات، وفقًا لما نص عليه قانون الإدارة المحلية. وبما أن قرار الحل صدر بتاريخ 7 تموز 2025، فإن ما تبقى من عمر تلك المجالس لا يتجاوز، بحسب تقديري الشخصي استنادًا إلى التاريخ الرسمي لإجراء الانتخابات السابقة، ثمانية أشهر ونصف تقريبًا، وهي مدة تتقلص فعليًا إلى شهرين ونصف فقط إذا ما أُخذت في الاعتبار فترة الهدنة الانتخابية التي تمتد لستة أشهر قبل موعد الاقتراع، والتي تُعد في العرف الإداري والسياسي فترة تهدئة يتم خلالها تجميد صلاحيات المجالس المنتخبة إلى الحد الأدنى، تفاديًا لأي تأثير محتمل على العملية الانتخابية أو استخدامها لتحقيق مكاسب آنية. ومن ثم، فإن توقيت الحل يطرح تساؤلًا مشروعًا حول جدواه، لا من حيث المدة فقط، بل من حيث أثره على مسار الإصلاح وثقة الناخب بالمؤسسات المنتخبة.
ويُحكم قرار الحل قانونيًا بالمادة(34/أ) من قانون الإدارة المحلية رقم 22 لسنة 2021، والتي منحت مجلس الوزراء صلاحية حل المجلس البلدي قبل انتهاء مدته، بناءًا على تنسيب من الوزير مع بيان الأسباب والمبررات الموجبة لذلك". وهو نص واضح يضع حدودًا قانونية صارمة على سلطة الحل، ويشترط أن يكون القرار معللًا ومسبَّبًا بشكل فردي، لا مجرد إجراء إداري جماعي. كما أن المشرع استخدم صيغة المفرد عند حديثه عن المجلس البلدي أو مجلس المحافظة، مما يدل على أن التعامل مع مع المجالس يجب أن يتم بصورة منفصلة تراعي خصوصية كل حالة، لا من خلال قرار شمولي لا يميز ولا يعلل.
ويُعزز هذا الاتجاه المادة(8/و) من القانون ذاته فيما يخص مجالس المحافظات، حيث نصت على: "لمجلس الوزراء بناء على تنسيب الوزير حل مجلس محافظة أو أكثر مع بيان الأسباب الموجبة لذلك ويعين الوزير لجنة مؤقتة تقوم مقامه"، مما يؤكد وحدة المنهج التشريعي في تقنين العلاقة مع المجالس المنتخبة، ويؤكد أن هذه العلاقة ليست مطلقة، بل تقيدها المشروعية الإجرائية والموضوعية، لا سيما وأن النصوص جاءت بصيغة المفرد، مما يؤكد أن المشرع لم يقصد منح صلاحية شاملة جماعية، بل تعامل مع كل مجلس كوحدة مستقلة تستحق تقييمًا منفردًا ومسؤولية محددة. ويُفهم من عبارة "مجلس أو أكثر" منح حق الحل لأكثر من مجلس، لكنه لا يجيز الحل الشامل لجميع المجالس دفعة واحدة دون مبررات فردية لكل مجلس على حدة.
ويكتسب موضوع حل المجالس البلدية والمحلية بعدًا دستوريًا هامًا، إذ نصّت المادة 45 من الدستور على أن مجلس الوزراء يتولى إدارة شؤون الدولة الداخلية ضمن حدود الدستور والقانون، كما نصّت المادة 120 على أن التقسيمات الإدارية ودرجاتها وصلاحياتها تحدد بقوانين وأنظمة يصدرها مجلس الوزراء بموافقة الملك. وهذا يؤكد أن صلاحيات مجلس الوزراء في حل المجالس ليست مطلقة، بل تخضع لضوابط دستورية وقانونية صارمة تمنع التعسف أو التجاوز، وتعزز من مشروعية دور المجالس المنتخبة كجزء لا يتجزأ من النظام الإداري الدستوري.
ومن هذا المنطلق، تؤكد رؤية جلالة سيدنا الملك عبد الله الثاني بن الحسين المفدى على أهمية منظومة الإصلاحات السياسية، التي ترتكز على تطوير العمل المحلي وتعزيز آليات التمثيل الديمقراطي، مع الالتزام بضوابط دستورية وقانونية تحافظ على الاستقرار السياسي والإداري.
إنن التسرع في حل المجالس قبل إتمام التعديلات التشريعية، وانطلاق الانتخابات ضمن أُطر واضحة وشفافة، يعرقل مسيرة الإصلاح ويضعف الثقة في المؤسسات، وهو ما توليه القيادة الهاشمية جل اهتمامها لتصحيح مساره بما يخدم الوطن والمواطن.
ويُذكر أن انتخاب المجالس البلدية والمحلية ومجالس المحافظات يتم حاليًا بموجب أحكام قانون الإدارة المحلية رقم 22 لسنة 2021، الذي وحّد الإطار التشريعي بعد دمج قانوني البلديات واللامركزية. ورغم أن هذا القانون ما زال نافذًا، إلا أن الحديث عن تعديله بات أمرًا واقعًا في ضوء توجه الدولة نحو تطوير المنظومة الانتخابية وتعزيز اللامركزية. ومن هنا، فإن التسرع في حل المجالس قبل إقرار التعديلات التشريعية الجديدة، وقبل تنظيم الانتخابات على أساس قانون محدث ومتفق عليه، يُثير تساؤلات حول الحكمة من اتخاذ قرار بهذا الحجم في مرحلة انتقالية حرجة، ويضاعف من أثره القانوني والسياسي على الثقة الشعبية بمبدأ التمثيل المحلي.
غير أن المسألة لا تقف عند حدود التوقيت أو السياق التشريعي المرتقب، بل تتعداها إلى الكيفية التي تم بها اتخاذ القرار، وهو ما يثير إشكالات قانونية عميقة تستحق التوقف عندها.
فالإشكالية الكبرى التي يفرضها القرار الحكومي الأخير لا تكمن في في استخدام الحق القانوني بحل مجلس بلدي بعينه، بل في تعميم هذا الإجراء ليشمل جميع المجالس البلدية والمحلية ومجالس المحافظات على مستوى المملكة دون تمييز أو تسبيب فردي لكل حالة على حدة. إن النصوص القانونية سالفة الذكر جاءت بصيغة المفرد، وأناطت بمجلس الوزراء حق حل "المجلس" البلدي أو "مجلس" المحافظة، لا المجالس كافة دفعة واحدة. ولو أراد المشرع منح الحكومة سلطة الحل الجماعي، لنص على ذلك صراحة، أو استخدم صيغة الجمع على نحو لا يحتمل اللبس.
إن اللجوء إلى حل شامل لا يسنده نص صريح، ولا يسبقه عرض لتقارير رقابية أو مخالفات موضوعية، يجعل القرار عرضة للطعن على أساس مخالفة مبدأ المشروعية، بل وقد يرقى إلى مرتبة الانحراف في استعمال السلطة، خاصة إذا ما ثبت أن القرار لم يتخذ بناءً على تقييم فردي موضوعي، بل جاء تعبيرًا عن إرادة سياسية تتجاوز الحدود القانونية.
وفي ضوء ما تقدم، يبرز تساؤل قانوني لا يمكن تجاهله: هل يجوز الطعن في قرار مجلس الوزراء بحل المجالس البلدية دفعة واحدة؟ والإجابة من حيث الأصل: نعم. فقرار الحل، وإن صدر عن جهة تنفيذية عليا وبناء على نص قانوني، يظل قرارًا إداريًا يخضع لرقابة القضاء الإداري، ما دام قد مس مراكز قانونية قائمة، وأنتج آثارًا مباشرة على هيئات منتخبة قائمة قانونًا لم تثبت بحقها مخالفة فردية أو تقصير واضح.
إذ إن القرارات الإدارية، حتى لو كانت صادرة عن مجلس الوزراء، ليست بمنأى عن الرقابة القضائية، خاصة إذا توفرت في الطعن أركان الاختصاص والمصلحة والصفة، وثبت أن القرار قد خالف نصًا صريحًا، أو اتخذ صبغة جماعية تخالف مقصد المشرع الوارد بصيغة المفرد في النصوص، أو انطوى على انحراف في استعمال السلطة أو تعسف في التقدير، أو افتقر إلى التعليل الذي يعد شرطًا جوهريًا في صحة القرار. وحيث إن التذرع بالمصلحة العامة دون بيان وجهها الواقعي لا يكفي لتسويغ قرار بهذا الحجم، فإن ذلك يعزز من إمكانية الطعن، ويفتح الباب لإعادة النظر القضائية في مدى مشروعية ما تم اتخاذه.
إن أي سلطة تمارس خارج إطار القانون، حتى وإن تظاهرت بالصلاحية، تهدد جوهر النظام الديمقراطي، وتضعف ثقة المواطن بالمؤسسات التي انتخبها. وليس من الحكمة في شيء، ولا من مقتضى الشرعية، أن يتخذ قرار بحجم حل جميع المجالس المحلية دفعة واحدة دون أن يقدم للرأي العام ما يثبت تقصيرها او إخفاقها بشكل جماعي، ولا أن يساق النص القانوني لتبرير إجراء يتعارض مع فلسفة القانون وروحه. وإذا كان القانون قد أجاز حل مجلس أو أكثر، فإنه لم يفعل ذلك ليحول الصلاحية الى سلطة مطلقة تتجاوز معيار التخصيص والتعليل، ولا ليجعل من المصلحة العامة عبارة جاهزة تعفي من تقديم المبررات وتمكن من إقصاء التمثيل المحلي بجرة قلم.
التمثيل المحلي ليس ترفًا إداريًا، بل هو حجر أساس في اللامركزية التي سعى الأردن لتكريسها، وهو امتداد مباشر لمبدأ المشاركة الشعبية في القرار العام. وأي مساس بهذا التمثيل دون ضمانات تشريعية ورقابية، يفرغ الانتخابات من مضمونها، ويحيل المجالس المنتخبة إلى كيانات مؤقتة رهينة المزاج التنفيذي، لا محكومة بدورة انتخابية ثابتة ومسؤولة.
ويبقى هذا التحليل في إطاره القانوني البحت، دون انحياز لأي طرف، أو دعوة لأي إجراء، وإنما لعرض إشكالية وطنية تستدعي التأمل في ضوء القانون والدستور.




