*
الاثنين: 15 ديسمبر 2025
  • 13 ديسمبر 2025
  • 17:11
حين تُوقظ الثقافة صمت المدن
الكاتب: الدكتور زيد أحمد المحيسن

خبرني - في الزمن الذي تُقاس فيه المدن بارتفاع بناياتها وتعرّجات جسورها، يظلّ جوهر العمران الحقيقي نابضًا في مكان آخر؛ في تلك الشرارات الخفيّة التي توقدها الثقافة في الأرواح، فتجعل من الحجر معنى، ومن الشارع ذاكرة، ومن البيت حكاية. المدن ليست إسمنتًا يعلو، ولا طرقًا تتسع، بل هي الكائن الذي لا يكتمل إلا إذا امتلأت ممراته بصوتٍ يقرأ، وصدى يغنّي، ويدٍ ترسم، وعينٍ تُصغي للحياة وهي تتشكّل في قوام الفنّ.

وهكذا تنطلق فكرة مدن الثقافة كنبضٍ ضروريّ يمنح الجغرافيا روحًا جديدة، وينقل الحراك الثقافي من مركزٍ واحد إلى فضاءات تتوزّع على خارطة الوطن كلها، لتصبح كل مدينة قادرة على رواية نفسها بلغتها الخاصة. حين يتدفّق الإبداع في مدينةٍ ما، فإنه لا يكتفي بأن يعرّف أهلها إلى ذاتهم، بل يبثّ حراكًا يتجاوز الحدود الضيقة، فينفتح على باقي المدن في حركة تبادلٍ تثري الجميع، وتعيد للثقافة مكانها الطبيعي كجسرٍ للتواصل ورافعة للهوية.

تُعيد هذه الرؤية الاعتبار لخصوصيات المدن، لملامحها التي كثيرًا ما تطمسها الضوضاء الحديثة. فهي لا تعيد فقط توزيع الفعل الثقافي، بل تُفعّل قدرة المجتمعات على إنتاج فنونها وتطوير أدواتها وبناء بنى تحتية تؤسس لنهضةٍ طويلة المدى. ومن رحم هذا الحراك، تنمو ذائقة أكثر حساسية، وتتشكل أجيال تنظر إلى الفنون لا باعتبارها ترفًا، بل ضرورة تُهذّب الروح وتعمّق الانتماء وتخلق مجتمعًا أكثر وعيًا وحرية.

في مدن الثقافة، تصبح الأمكنة مسارح للضوء؛ الشوارع تقرأ، الساحات تغنّي، والناس يلتقون في سياقٍ يتجاوز الضرورات اليومية إلى رحابة المشاركة في صناعة معنى جماعي. هنا، يُعاد تعريف التنمية بوصفها منظومة تتداخل فيها القيم الجمالية مع الاحتياجات المادية، فيتشكّل مجتمعٌ قادر على مقاومة الظواهر السلبية بقوة المعرفة ورحابة الخيال.

ليس للثقافة أن تبقى حبيسة مركز واحد، ولا أن تُستدعى في مواسم عابرة. هي روح المدن، جوهر عمرانها الحقيقي، لحمتها التي تشدّ أطرافها ببعضها. كل مدينة تستحق أن تُكتشف بوصفها حاضنة لإبداع أبنائها، وأن تُمنح فرصة لتروي قصّتها للعالم. وعندما يحدث ذلك، يتحوّل الوطن بأكمله إلى فضاء مشرعٍ للفنّ، ومختبرٍ دائمٍ للجمال، وخريطةٍ تُقرأ فيها التفاصيل كأنها نبوءة مضيئة.

بهذه الرؤية، لا يعود بناء المدينة مقتصرًا على الأحجار والفولاذ، بل يمتدّ إلى بناء الإنسان ذاته؛ إلى ذلك الوميض الذي يجعل المدن أكثر حياة، وأكثر قدرة على الاحتفاظ بأحلام ساكنيها. فالمدن التي تتنفس الثقافة، هي وحدها المدن القادرة على البقاء.

مواضيع قد تعجبك