*
الخميس: 18 ديسمبر 2025
  • 25 حزيران 2025
  • 17:37
الهجرة النبوية محطة تأسيس حضاري ونهج إنساني خالد
الكاتب: الدكتور زيد احمد المحيسن

خبرني - من المؤسف أن أمة محمد ﷺ، بما تملك من إرث حضاري وروحي مجيد، قلّما تُولي اهتمامًا جادًا لتأمل سيرتها وتاريخها الإسلامي الزاخر بالعبر والدروس، ولا تسعى - كما ينبغي - للتواصل مع ماضيها المضيء بأدوات العصر الفاعلة، كي تستلهم منه ما يعينها على بناء حاضرها واستشراف مستقبلها.
إن سيرة رسولنا الكريم، ولا سيما هجرته المباركة، ليست مجرد حدث تاريخي أو انتقال مكاني من مكة إلى المدينة، بل هي ثروة إنسانية وقيمية عظيمة، ومدرسة متكاملة في الفكر والسياسة والاجتماع والأخلاق. فيها من الرشد والحكمة ما يمكّن الأمم من النهوض، وفيها من القيم والتجارب ما يضيء دروب الإنسان نحو التحرر والعدالة والكرامة.
لقد واجه النبي صلى الله عليه وسلم منذ بداية دعوته المباركة من التحديات والمحن ما لا يطيقه الإنسان العادي، وتعرّض للأذى الجسدي والنفسي والحصار الاجتماعي والاقتصادي، وواجه سخرية القوم وافتراءاتهم، حين نعتوه بالساحر والمجنون والشاعر. ومع كل ذلك، ظل ثابتًا كالطود، لا يلين عزمه ولا يضعف يقينه، متمسكًا بالحق، مستندًا إلى وعد الله بالنصر، مدركًا أن التغيير الجذري لا بد له من صبر وثبات.
لقد كانت دعوته ثورة على منظومة الشرك بكل تجلياتها، وعلى أنظمة التمييز الطبقي والعرقي والاقتصادي، بشّر فيها بميلاد أمة جديدة، تؤمن بالحرية والكرامة، وتضع ميزان التفاضل في التقوى لا في الأنساب ولا الأموال. وجاء يوم المؤاخاة في المدينة إيذانًا بميلاد مجتمع إنساني يقوم على رابطة الإيمان لا الانتماء القبلي، وعلى مبدأ التوحيد الذي يُحرر الإنسان من عبودية البشر إلى عبودية الله وحده.
الهجرة لم تكن انسحابًا من المواجهة، بل كانت تخطيطًا استراتيجيًا لصناعة واقع جديد، أراد من خلاله النبي صلى الله عليه وسلم أن يؤسس لحضارة قائمة على التوحيد والعدل والمساواة. وقد سبقها موقف عظيم حين أذن النبي لأصحابه بالهجرة إلى الحبشة، حيث العدل والتسامح، ليؤكد أن الدين الحق لا يتصادم مع القيم الإنسانية النبيلة، وأن أهل الكتاب حين يتحلّون بالعدل أقرب للحق من أهل الجاهلية.
ثم جاءت الرحلة الكبرى إلى يثرب، المدينة التي قدّرت معنى النبوة واستقبلت الرسول وأصحابه بالحب والإيمان. كانت الرحلة محفوفة بالمخاطر، حتى إذا بلغ النبي وصاحبه الغار، طمأن رفيقه بكلمات خلدها القرآن:
{لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا}، فكأنها نزلت بردًا وسلامًا على القلوب المؤمنة.
الهجرة النبوية كانت بداية تكوين أمة ساهمت في الحضارة الإنسانية، وقدّمت للعالم مفاهيم راقية في العدل والحرية وحقوق الإنسان. ولئن كان الغرب اليوم قد بنى نهضته على كثير من هذه المبادئ، فإن تأخرنا الحضاري هو نتاج ابتعادنا عن جوهر ديننا وأخلاقيات رسالتنا.
نحتفي بذكرى الهجرة كل عام، لكن يندر أن نرتقي إلى مستوى استيعاب معانيها أو تمثل قيمها في واقعنا وسلوكنا. إن الهجرة ليست ذكرى نرددها في الخطب والمواعظ، بل هي مشروع حضاري إنساني، جدير بأن يكون نبراسًا لأمتنا في بناء نهضتها وتحرير إرادتها وتثبيت هويتها.
فليكن احتفالنا بالهجرة محطة لتجديد العهد مع الله، وللاستئناس بسيرة نبيه الكريم ﷺ، لا استذكارًا شكليًا خاليًا من الروح، بل وعيًا بالقيم، وعملًا على تحقيق مضامينها السامية في واقعنا المعاصر، أفرادًا ومجتمعات ..

مواضيع قد تعجبك