*
الخميس: 18 ديسمبر 2025
  • 17 ديسمبر 2025
  • 14:40
حين يلفت المشهد الانتباه بلا ضجيج
الكاتب: أ. د. هاني الضمور

خبرني - في عدد متزايد من الجامعات العربية، باتت بعض المشاهد اليومية تحمل دلالات تتجاوز بساطتها الظاهرية، ومن بينها الحضور العلني للتدخين بين بعض طالبات الجامعات. هذا الحضور لا يُقابل بضجيج أو جدل واسع، لكنه يلفت الانتباه بوصفه مؤشرًا على تحوّل صامت في المشهد الجامعي العربي، تحوّل يستحق التوقف عنده والدراسة.

إن تناول هذه الظاهرة لا ينطلق من استهداف للطالبات، ولا من مقارنات بين الذكور والإناث، كما لا يرتبط بخطاب الحرية الشخصية الذي غالبًا ما يُستدعى عند مناقشة مثل هذه القضايا. بل يأتي في إطار رصد واقع اجتماعي آخذ في التشكل داخل بيئة تعليمية يفترض أن تكون حاضنة للوعي والسلوك المسؤول. فالسؤال المطروح ليس من يمارس السلوك، بل لماذا أصبح مرئيًا ومتكررًا في فضاء كان إلى وقت قريب يخلو من مثل هذه المشاهد.

في الماضي، كان التدخين في العلن داخل المجتمعات العربية مرفوضًا اجتماعيًا، وكانت هذه النظرة كافية لإبقائه خارج الفضاء العام، وخاصة في البيئات التعليمية. هذا الرفض لم يكن نتاج تشريعات أو إجراءات، بل تعبيرًا عن وعي جمعي يرى في التدخين سلوكًا ضارًا لا ينسجم مع الذوق العام ولا مع صورة الطالب الجامعي. ونتيجة لذلك، ظل حضوره محدودًا وغير ظاهر، ولم يتحول إلى ظاهرة قابلة للرصد.

أما اليوم، فقد تبدّل المشهد في عدد من الجامعات العربية. خرج التدخين من نطاق الخفاء إلى العلن، وأصبح يُمارَس دون حرج في بعض الأوساط الجامعية. هذا التحول يثير تساؤلات متعددة: ما الذي تغيّر في نظرة المجتمع العربي إلى هذا السلوك؟ وهل نحن أمام تبدّل في القيم أم في قدرتها على الضبط؟ ولماذا لم يعد هذا المشهد يثير الاستهجان الذي كان يرافقه سابقًا؟

وتزداد هذه التساؤلات عمقًا حين يُنظر إلى الظاهرة في سياقها الأوسع. فهل ما يحدث داخل الجامعات العربية هو نتيجة تحولات داخلية خاصة، أم انعكاس لتأثيرات عالمية عابرة للحدود؟ إلى أي مدى أسهمت وسائل التواصل الاجتماعي، بما تحمله من صور وأنماط سلوكية مستوردة، في إعادة تعريف المقبول والمرفوض لدى فئات شابة في المجتمعات العربية؟

كما يبرز دور الصمت العام بوصفه عاملًا لا يمكن تجاهله. فهل ساهم غياب النقاش الجاد حول الظاهرة في تطبيعها؟ وهل تحوّل التغاضي إلى شكل من أشكال القبول غير المعلن؟ وعندما يغيب السؤال، هل يصبح السلوك المتكرر جزءًا من الواقع اليومي دون أن يخضع لأي مراجعة فكرية أو اجتماعية؟

إن طرح هذه الأسئلة لا يهدف إلى إصدار أحكام أو إثارة الجدل، بل إلى فتح نقاش موضوعي حول تحوّل اجتماعي بات ملموسًا في الجامعات العربية. فالتدخين، بوصفه سلوكًا ذي آثار صحية واجتماعية معروفة، لا يظل شأنًا فرديًا حين يصبح علنيًا داخل مؤسسات تعليمية، بل يتحول إلى قضية عامة تتطلب فهمًا أعمق للسياق الذي أنتجها.

في الختام، يلفت هذا المشهد الانتباه بلا ضجيج داخل الجامعات العربية، لكنه يطرح أسئلة كبيرة حول اتجاهات التغيّر في المجتمعات العربية وحدود المقبول فيها. فهل نحن أمام ظاهرة عابرة فرضتها مرحلة معينة، أم أمام تحوّل طويل الأمد في أنماط السلوك؟ الإجابة عن هذه الأسئلة تبدأ بالاعتراف بوجود الظاهرة، ثم بفتح باب التساؤل الهادئ والمسؤول قبل أن يتحول هذا المشهد الصامت إلى واقع دائم لا يثير أي انتباه.
 

مواضيع قد تعجبك