يمر القطاع العقاري الأردني اليوم بمرحلة دقيقة، تُحتم إعادة تقييم شاملة للسياسات والاستراتيجيات التي تحكمه، في ظل متغيرات إقليمية وعالمية متسارعة تنعكس مباشرة على أداء هذا القطاع الحيوي الذي لطالما شكل ركيزة أساسية في الاقتصاد الوطني ومصدر جذب للاستثمار الأجنبي والعربي.
في الوقت الذي تشير فيه الأرقام الرسمية إلى أن التداول العقاري في الأردن بلغ ما يقارب 2 مليار دينار خلال الثلث الأول من عام 2025، بزيادة ملحوظة عن نفس الفترة من العام الماضي، إلا أن هذا النمو يخفي وراءه تراجعًا مقلقًا في تملك غير الأردنيين للعقارات بنسبة 13%، ما يستدعي التوقف عند جملة من التحديات، وصياغة رؤية تنموية جديدة تُعزز من جاذبية السوق الأردني، وتحصّنه أمام المنافسة الإقليمية المتصاعدة، لاسيما من سورية بعد بدء تخفيف العقوبات الدولية عنها.
تحولات إقليمية تُغيّر قواعد اللعبة
رفع العقوبات جزئياً عن سورية، وبدء جهود إعادة الإعمار، يفتح الباب واسعاً أمام تدفق الاستثمارات العقارية إلى هذا البلد، لا سيما في ظل ما توفره من أسعار منخفضة، وتسهيلات حكومية متوقعة، ومشروعات عمرانية واسعة، ما يشكل عامل جذب قد يصرف أنظار المستثمرين العرب عن الأردن في حال لم تتحرك الجهات المعنية بخطى سريعة ومدروسة.
وبينما تتركز 70% من التداولات العقارية في العاصمة عمّان، فإن غياب التوازن الجغرافي يرفع كلفة العقار في المدينة ويُثقل بنيتها التحتية، ويُعمّق الفجوة التنموية مع باقي المحافظات، التي لا تقل إمكانياتها الاستثمارية عن العاصمة، بل وتتفوق عليها أحياناً من حيث الجاذبية الطبيعية والسياحية.
الحاجة إلى هيئة تطوير عقاري وطنية
أمام هذه التحديات، تبرز الحاجة الملحة إلى إنشاء هيئة وطنية مستقلة لتطوير القطاع العقاري، تكون بمثابة الذراع التخطيطي والتنظيمي، وتقوم بالمهام التالية:
- رسم سياسات تطويرية متكاملة ترتكز على التنوع الجغرافي في المشاريع، وتقليل التركّز في العاصمة، عبر تحفيز الاستثمار في المحافظات بمزايا حقيقية وبيئة جاذبة.
- التنسيق بين الجهات المعنية (دائرة الأراضي، أمانة عمان، البلديات، وزارة الاستثمار، وزارة الأشغال)، وتوحيد الإجراءات تحت مظلة رقمية موحدة تُسهّل على المستثمر والمتعامل الوصول إلى البيانات والخدمات.
- مراقبة مؤشرات السوق العقاري بفعالية، وإعداد تقارير دورية تُحلل الاتجاهات وتُقدم توصيات واقعية قائمة على بيانات دقيقة، وليس فقط على الانطباعات.
- اقتراح قوانين وأنظمة محفزة، كالإعفاءات الضريبية، وتبسيط تسجيل الملكيات، وتسهيل دخول المستثمرين الأجانب ضمن إطار تنظيمي يضمن الشفافية وحماية الحقوق.
- إطلاق مشروعات استراتيجية بالشراكة مع القطاع الخاص، خصوصاً في المحافظات المهمشة، مثل مشاريع سكن ميسر، ومجمعات سياحية، ومدن صناعية متكاملة.
فرصة اقتصادية شاملة إذا أحسنّا استثمارها
إن الاستثمار في العقار ليس مجرد بناء وبيع، بل هو رافعة تنموية شاملة، يُنشّط سلاسل إنتاج متعددة تبدأ من الصناعات الإنشائية، وتشمل الخدمات، والنقل، والمرافق، ما يؤدي إلى خلق فرص عمل مباشرة وغير مباشرة، ويُحرك عجلة الاقتصاد الوطني.
ومن هنا، فإن إنشاء هيئة تطوير عقاري متخصصة يُمثل خطوة استراتيجية تُعيد التوازن التنموي، وتُعزز قدرة الأردن على المنافسة إقليميًا، وتُحقق رؤية اقتصادية أكثر شمولية وعدالة.
لا يمكن للقطاع العقاري الأردني أن يستمر بالاعتماد على الأدوات التقليدية والنهج البيروقراطي في ظل عالم يتغير بسرعة. ومع بروز منافسين إقليميين جدد كالعراق وسورية ومصر في سوق الاستثمار العقاري، فإن بقاء الأردن في موقع الريادة يتطلب تحولاً مؤسسياً حقيقياً، تبدأ أولى خطواته بإنشاء هيئة وطنية لتطوير العقار، تُحقق التوازن، وتُحفز النمو، وتستشرف المستقبل.




