في عالم تتسارع فيه وتيرة الحياة وتزدحم فيه الشوارع بالمركبات والأبنية، يصبح الفن في الفضاء العام بمثابة نافذة للروح، وسيلة للتعبير عن الهوية، وجسرًا يربط بين الماضي والحاضر. إن دمج الفنون في الشوارع، الحدائق، والجدران ليس مجرد ترف أو إضافة جمالية، بل هو عملية تفاعلية حية تمنح المجتمعات فرصًا جديدة للتعبير، التفكير، والمشاركة في إعادة تشكيل البيئة الحضرية.
في الأردن، كما في العديد من البلدان، يواجه الفضاء العام تحديات متعددة تتراوح بين الازدحام العمراني والتلوث البصري، حيث تكتظ الشوارع بالمباني المتشابهة، وتغيب المساحات الخضراء التي تشبع النفس. من هنا، فإن دمج الفنون في هذه الأماكن يمكن أن يكون حلاً فعّالًا لتحويل الفضاء العام إلى مكان ينبض بالحياة والجمال، ويسهم في تحسين الذائقة العامة وإحياء الحس الثقافي.
فالفن في الفضاء العام لا يعني فقط الجداريات الضخمة التي تزين الجدران، بل يمتد ليشمل النحت في الحدائق العامة، وفن الشارع الذي يملأ الأرصفة والأزقة. إنه استثمار في كل زاوية من زوايا المدينة، حيث يمكن أن تتحول الحافلات العامة إلى منصات فنية تحمل رسائل ثقافية وشعرية، كما يمكن للمحطات والمواقف أن تصبح نقاطًا للحوار بين الفنانين والجمهور.
تجسد الجداريات التي تزين جدران المباني في عمان، على سبيل المثال، جزءًا من هذا التحول الثقافي، إذ أصبحت هذه الجداريات ليست مجرد لوحات فنية، بل تعبيرًا حيًا عن هوية المجتمع، ومناسبة للتفاعل بين الفنانين والمواطنين. من خلال هذه الجداريات، يمكن أن تُسرد قصص تاريخية، وتُعرض صور من التراث، وحتى قضايا اجتماعية معاصرة. بهذا الشكل، يصبح الفضاء العام لوحة فنية مفتوحة تتيح للجميع فرصة المشاركة والتفاعل.
تعتبر الحدائق العامة من أبرز الأماكن التي يمكن أن تحتضن الفنون، حيث يمكن تحويلها إلى معارض فنية حية، تعكس ليس فقط جمال الطبيعة، بل أيضًا قدرة الإنسان على الابتكار والإبداع. يمكن للفنانين أن يزينوا هذه الأماكن بمنحوتات فنية، أو حتى بأنشطة فنية تفاعلية، تتيح للزوار من مختلف الأعمار فرصة الإبداع والتعبير عن أنفسهم.
أحد أبرز أشكال الفن الذي يمكن أن يشق طريقه إلى الفضاء العام هو "فن الشارع"، الذي أصبح أحد أبرز الحركات الثقافية في العالم. فن الغرافيتي، على سبيل المثال، هو أحد أشكال التعبير التي يمكن أن تزدهر في شوارع الأردن، حيث يُحاكي الشارع نفسه ما يعيشه المواطن من أحاسيس وأفكار. ومع إتاحة الفرصة للفنانين المحليين، يمكن لهذا الفن أن يصبح وسيلة مهمة لطرح القضايا المجتمعية والسياسية بطريقة مبتكرة.
إن الفضاء العام المزين بالفن لا يقتصر دوره على تجميل البيئة، بل يمتد ليكون أداة فعالة للتوعية الثقافية، وتشجيع التفكير النقدي، وفتح حوار مجتمعي. في هذا السياق، يُعتبر دمج الفنون في الحياة اليومية ليس فقط وسيلة لتحسين البيئة الحضرية، بل هو دعوة لإعادة تعريف الفضاء العام كمساحة للتبادل الثقافي والفكري. من خلال هذه المبادرة، يتمكن الناس من رؤية عالمهم من منظور جديد، حيث تصبح الجدران ليست مجرد حدود، بل منصات للإبداع والحرية.
إن الفنون في الفضاء العام هي أكثر من مجرد تزيين، فهي وسيلة لتخليد الهوية الثقافية، ولخلق بيئة صحية من الحوار والتفاعل، ولتحفيز الإبداع في شوارع المدن وحدائقها. حين تتوحد الجماليات مع البيئة، يصبح الفضاء العام مسرحًا حيًا من الفن والتواصل، ينعكس تأثيره على كل فرد في المجتمع، ويُعيد للمدينة رونقها ومكانتها الثقافية..




