*
الخميس: 15 أيار 2025
  • 08 أيار 2025
  • 15:10
تعديل قانون العقوبات: تقويض الردع العام وتذويب هيبة الدولة بثوب التصالح
الكاتب: المحامي الدكتور ربيع العمور

 

في لحظة فارقة من تاريخ العدالة الجنائية الأردنية، صادق مجلس النواب بالأغلبية على مشروع القانون المعدل لقانون العقوبات لسنة 2025، تحت لافتة “تعزيز العدالة التصالحية وتخفيف الاكتظاظ”. لكن الحقيقة التي يجب الوقوف أمامها بجرأة، أن هذا التعديل لا يُشكل تطورًا تشريعيًا نحو الإنسانية، بل يُهدد فلسفة العقوبة ذاتها، ويُضعف وظائف الردع العام والخاص، ويُحوّل أدوات الدولة العقابية إلى خيارات ناعمة تفتقر للحزم والفعالية.
أولًا: تقليص الغاية من العقوبة إلى مجرد "إعادة تأهيل"
أُفرغت العقوبة من مضمونها الرادع، حين حُوّلت من وسيلة لحماية النظام الاجتماعي إلى مجرد أداة "إعادة تأهيل". إن اختزال وظيفة العقوبة في التأهيل دون مراعاة للردع، يُفقدها أثرها الرمزي في وجدان المجتمع، ويجعل الجريمة سلوكًا قابلًا للاستيعاب والمرور دون كلفة اجتماعية رادعة. الردع، وفقًا للمدرسة الكلاسيكية، هو العمود الفقري للعدالة الجنائية. كيف يمكن لمواطن أن يثق بدولة لا تُشعر الجاني بمرارة الجزاء؟!
ثانيًا: العدالة التصالحية – مفهوم مغشوش في غياب التوازن
فيما يُدافع الوزراء عن "العدالة التصالحية" كتطور تشريعي، يتضح أن التطبيق يفتقر للتوازن. إذ أُجيز استبدال العقوبات السالبة للحرية بعقوبات بديلة حتى بعد اكتساب الحكم للدرجة القطعية، مما يفتح الباب للتدخلات والضغوط الاجتماعية والسياسية. والأخطر، أن بعض هذه البدائل مثل الخدمة المجتمعية أو الإقامة الجبرية قد تتحوّل في الممارسة إلى مجرد "عقوبات شكلية"، لا تُحقق لا الردع ولا الإصلاح، بل قد تُستغل كأدوات للمحاباة الطبقية.
ثالثًا: تقسيط الغرامات ومنع السفر – العدالة لمن يملك القدرة
نص التعديل على تقسيط الغرامات أو تأجيلها، وربط التنفيذ بالقدرة المالية، وأجاز منع السفر إلا في حال ثبوت وجود أملاك تُغطّي قيمة الغرامة. هذا التفصيل يُكرّس انعدام المساواة بين الأغنياء والفقراء، ويحوّل الغرامة إلى إجراء تفاوضي بدلًا من كونها عقوبة جزائية. ماذا عن الفقير الذي لا يملك مالًا ولا ممتلكات؟ سيُمنع من السفر ويُلاحق، بينما الميسور يُقسط ويُسافر ويُصفق له باسم "حقوق الإنسان". وهذا يتعارض صراحة مع المادة (6) من الدستور الأردني التي تنص على أن "الأردنيين أمام القانون سواء".
رابعًا: استبدال "الحكومة" بـ"الدولة" – تجميل لغوي بلا مضمون قانوني
تعديل المادة 22 بإلغاء لفظ "الحكومة" واستبداله بـ"الدولة" لا يغير في الأثر القانوني شيئًا، بل هو مجرد تجميل لغوي يُراد منه الإيحاء بالتحديث، دون أن يُعالج إشكاليات جوهرية تتعلق بآليات تنفيذ الغرامة، أو ضبط معايير الإعفاء أو الجدولة، أو ضمان عدم الانتقائية.

خامسًا: غياب مبدأ المساواة في تنفيذ العقوبة
تكريس سلطة قاضي التنفيذ في تقييم قدرة المحكوم عليه على دفع الغرامة، وتقديره للحجز أو المنع من السفر، دون معايير واضحة ومُلزمة، يُنتج تفاوتًا صارخًا في التنفيذ. العدالة لا تقوم على المزاج القضائي، بل على مبدأ الشفافية والثبات في تطبيق النص. وهذا الغموض يهدد مبدأ الشرعية وتناسب العقوبة، وهما من المبادئ الدستورية المستقرة.
سادسًا: تعليق تنفيذ العقوبة – تهديد لمبدأ الأمن القانوني
إتاحة وقف تنفيذ العقوبات بعد الحكم القطعي تمسُّ بفكرة “الأمن القانوني”، وتُشجّع على تصور الجريمة كمجرد تجربة يمكن تجاوزها لاحقًا بمصالحة أو بدفع مالي. هذا التصور يُفرغ العقوبة من قوتها الرمزية ويُشوه فلسفتها الوقائية، ويُرسل رسالة مفادها: الجريمة خيار يمكن تصحيحه لاحقًا، لا انحراف يجب ردعه فورًا.
سابعًا: العدالة التصالحية بين النظرية والتطبيق
العدالة التصالحية، في فلسفتها الأصلية، تستند إلى إعادة ترميم العلاقة بين الجاني والمجتمع أو الضحية، وهي تصلح في الجرائم البسيطة ذات الطابع الشخصي. لكنها تصبح خطرًا حين تُستخدم في جرائم تمس النظام العام، أو حين تُوظف لتخفيف العقوبات دون قيود. العدالة التصالحية يجب أن تبقى استثناءً مضبوطًا، لا قاعدة عامة تُذيب الردع في بحر من التسويات.
تعديل قانون العقوبات الأردني لسنة 2025 لا يُمثل إصلاحًا حقيقيًا، بل تراجعًا في أدوات الردع والتوازن الاجتماعي. العدالة التصالحية ليست بديلًا عن العقوبة، بل مكمل لها في حالات محددة وضابطة. أما التوسع في استخدامها بهذا الشكل، فهو تقنين لتليين قبضة الدولة أمام الجريمة، وإضعاف للثقة المجتمعية بالقضاء، وتفريغ للقانون من هيبته.

التوصيات:

1. ضرورة إعادة النظر في التعديلات التي تُضعف مبدأ الردع وتُهدد هيبة الدولة.

2. وضع معايير تشريعية ملزمة لتطبيق العقوبات البديلة تضمن العدالة والفعالية.

3. ربط العدالة التصالحية بحدود نوعية وموضوعية دقيقة تمنع الانزلاق نحو التراخي القانوني.

4. رفض أي تعديل يُجيز وقف التنفيذ بعد الحكم القطعي إلا بموجب معايير مشددة واستثنائية.

5. إعادة الاعتبار للغرامة كعقوبة جزائية لا كإجراء إداري تفاوضي.

6. الرهان على مجلس الأعيان في رفض هذه التعديلات حمايةً لمبدأ سيادة القانون ووظيفة الردع.
 

مواضيع قد تعجبك