لا زالت تتداول الوسائل الإعلاميّة ومنصات التواصل الاجتماعي آخر الأخبار والمجريات المتعلّقة بحادثة تعرّض طفل الرصيفية (محمد) على يد شقيقين من زملائه في مطبخ المدرسة من خلال سكب مادة قابلة للاشتعال على جسمه وإشعال النيران فيه بعد إغلاق باب المطبخ عليه كي لا يتدخل أحد لإنقاذه، وبدأ التداول بشأن العقوبات التي قد تقع على المتسببين، ليقوم بعض المستخدمين والناشطين بنشر هذه العقوبات معترضين على عدم الملاحقة القانونيّة للحدث إذا لم يكن قد أتمَّ (12) عاماً، معلّقين بأنَّه يجب أن يكون هناك عقوبات رادعة للطفل الحدث؛ حتى لا يكون العمر سبباً مشجعاً للأطفال أو ذويهم للقيام بأفعال تنمر وإيذاء قد تُلحق الأذى والضرر بالآخرين دون رقيبٍ أو حسيب، خاصةً وأنَّ مفهوم الطفولة قد تغيّر بسبب عوامل كثيرة ولم يعد كالسابق وأصبح الأطفال أكبر بكثر من عمرهم ومدركين لأفعالهم وعواقبها وبالتالي يجب أن يتم محاسبتهم عليها وأن يتحملوا مسؤوليّتها، وأنَّ ما حدث كان جريمة كادت تودي بحياة طفل وسيترتب عليها توابع كثيرة على الطفل ومستقبله.
ومن جهةٍ أخرى، فإنَّ هذا القانون لم يقم المشرّع الأردني بوضعه بطريقة اعتباطية ولم يكن وليد لحظته؛ بل مرَّ بمراحل عديدة وفقاً للدستور الأردني، كما أنّه يتبع للوائح وقوانين عالميّة وفقاً لقوانين حقوق الطفل واتفاقيات عالميّة ترعى مصالح الطفل الفضلى، وقد يكون تغييره بدون تدقيق وتأني وبناءً على ردة فعل عاطفية تبعات لم تكن بالحسبان، من الناحيتين النفسيّة القانونيّة .
وفي ذلك، يقول الأخصائي النفسي الدكتور فؤاد رضوان "إنَّ الأطفال الذين أقدموا على هذا السلوك لديهم استهتار وسوء تربية وعدم رقابة، وقد يكونوا تعرّضوا لتكرار مشاهد سلبيّة أمامهم لأكثر من مرة، فلن يُقدم أي طفل على سلوك كهذا دون أن يكون قد جرّبه أو جرّب شيئاً مشابهاً له، أو تعرّض له في وقت سابق، أو أنَّه يعاني من آثار صدمة نفسية نتيجة خطأ حدث في حياته دفعته للإقدام على هذا السلوك."
فيما أكد رضوان أنَّ الطفل دون سن الـ (12) لا يكون قد وصل لمرحلة التفكير المجرد التي يستطيع الطفل من خلالها إدراك وتمييز كمية الأذى التي من الممكن أن يُلحقها بالآخرين، كما لا يكون قد وصل بتفكيره وشخصيته لمفهوم الإجرام بمفهومه الدقيق، أو الشخصيّة اللااجتماعيّة، أو الشخصيّة اللاتكيّفيّة، حيث لا تظهر بوادر هذه الشخصيات بشكلٍ واضع قبل سن الـ (14) أو الـ (15) عاماً، وهذا النوع من السلوكيّات هو على الأرجح نوع من التقليد لموقف سبق لهم مشاهدته، أو ردة فعل لإيذاء سابق تعرّضوا له، أو سوء في التربية وعدم المراقبة.
وأضاف رضوان "أنّه لو نظرنا للموضوع من زاوية قانونيّة لمعاقبة الأطفال دون سن الـ (12) على أفعال من هذا النوع وتجريمها، فيجب النظر لمصلحة الطفل من هذا الجانب، خاصةً وأنَّه لو نظرنا للوقائع من هذا النوع في الأردن بالتحديد، والتي يكون فيها إيذاء متعمد عالي الخطورة فهي تكاد تكون نادرة أو معدومة الحدوث ولا تتعدى العشرات وخلال فترات متباعدة جداً، أما بقية الأحداث فلو كان فيها أذىً بليغ فتكون في معظم الأوقات غير متعمدة، منوّهاً إلى أنّه يفضّل فكرة تكييف القانون حسب الحالة الفرديّة ووضعها العقلي والنفسي لأنَّ القانون رادع ويراعي التكوين النفسي للطفل وتفكيره في هذه المرحلة العمريّة."
ومن جهةٍ قانونيّة، يقول الخبير القانوني وأستاذ القانون الجنائي الدكتور أشرف الراعي: إنَّه من الأفضل الإبقاء على سن الملاحقة الجنائيّة في قانون عقوبات الأحداث الأردني، أو محاولة رفعه؛ فاليوم لدينا ما يُسمى بالتوجهات القانونيّة الحديثة والتوجّهات الدولية لحماية حقوق الطفل، وهي تركز على سن الملاحقة الجنائية للأحداث، وهذا أمر وارد في الاتفاقيات الدوليّة؛ كاتفاقيّة حقوق الطفل، وحقوق الإنسان وغيرها؛ حيث تركز هذه الاتفاقيّات على ما يُسمّى بالعدالة الإصلاحيّة، بدلاً من مطاردة وملاحقة الطفل وإدخاله للسجون لينال عقابه وبالتالي ستوصم حياته لأبد الآبدين وهو يعاني من أثر هذا الموضوع.
فيما تابع الراعي حديثه " إنَّ إخضاع الطفل لملاحقة جنائيّة بسن مبكرة وهو طفل سيؤثر على مجمل حياته وعلى مختلف الأصعدة، وقد يخلق آثار سلبية في تطورة الاجتماعي والنفسي، وفي علاقته مع المجتمع وأسرته، فبدلاً من إدخال الطفل في هذه الدوّامة والمساهمة في خلق مجرم جديد في المجتمع، يمكننا التعامل معه في إطار أكثر إنصافاً وعدالة، بحيث نعمل على حماية هذا الطفل وتوجيهه وتوعيته بدلاً من معاقبته بعقوبات قد تكون قاسية وتشكّل خطورة على حياته ومستقبله."
كما أكد الراعي على أنَّ الوقاية والإرشاد والتوعية هي الأسلوب الأمثل دائماً للارتقاء بالمجتمع وتقليل نسبة الجرائم وليس بالعقوبات المغلّظة، فالهدف الأساسي من قانون العقوبات ليس العقاب بحد ذاته أو لتحقيق فكرة الانتقام، إنما هي لتحقيق الردع العام والردع الخاص.
وأشار الراعي أننا اليوم بحاجة ماسة لتوعية الأهل من خلال الدورات التدريبيّة بالطرق المثلى والمناسبة لتوجيه أطفالهم وتوعيتهم وإرشادهم نحو السلوكيات الصحيحة والبناءة في المجتمع، وكذلك الأمر بالنسبة للمعلمين لتعريفهم وتوعيتهم بالطرق المناسبة للتعامل مع الأطفال والمراهقين بدلاً من محاولة معاقبة الطفل بطريقة قد تدمّر حياته، مؤكداً على أنَّ معالجة قضايا الأحداث بصورة عامة ينبغي أن تكون من خلال عمليّات الدمج والتأهيل وليس من خلال دائرة العقوبات، وبالتالي إبقاء سن الملاحقة الجنائيّة على حاله والتوعيّة بحقوق الطفل هو الأساس، وهذا ما سيؤدي للارتقاء بالمجتمع وتماسكه وليس من خلال العقوبات التي قد توصم الطفل لمدى الحياة بدلاً من محاولة دمجه في المجتمع ليكون مواطناً صالحاً فيه.
وفي ذات السياق، أوضح الخبير القانوني الدكتور طلال الشرفات أنَّه ليس هناك مبرر واضح وكافٍ لتعديل قواعد المسؤولية الجنائية للقاصرين؛لأنَّ العبرة هنا في عدم نضج الإرادة الكافي لتقرير تلك المسؤولية، مشيراً إلى أنَّ العقوبة ليست هدف للمشرع بل هي لتحقيق عوامل الردع العام والخاص، ولكن يمكن تفعيل التدابير الاحترازية كالإيداع في مصحات نفسية أو عقلية أو دور الرعاية أو ماشابه ذلك من مؤسسات متخصصة.