لِبُعدِنا عن النزاهة ، والإستقامة ، وإستمراء الغالبية للحرام ، وبحثهم عنه ، وإقتناصهم فُرَصَهُ ، وفرحهم بالفوز به ، وددت أن أذكُر قصة من قصص والدي رحمة الله عليه في بُعده عن الحرام في تعاملاته ، وإدارة شؤونه ، مع التأكيد على ان والدي لم يكن متفرداً في ذلك ، بل ان البُعد عن الحرام كاد ان يكون نهجاً مجتمعياً ، في ذلك الزمان . سأذكر قصة بسيطة لأنها تعكس رفض ، وتحسس والدي الشديد ، وحِدَّتِهِ — رغم هدوء طبعه — وحذرِهِ من الوقوع حتى لو في شُبهة الحرام .
كان والدي يقتني شلايا من الأغنام — كما غالبية أبناء عمومته — وكان في أغلب الأوقات لديه راعياً واحداً ، او إثنين ، وأحياناً يكون لديه ( لاحوق ) أي مساعداً للراعي . ولأنها شلايا ، او غنمٌ ( جَهام ) أي كثيرة العدد ، كان يَقْسِمها الى ( شَليتين ) أي قطيعين ، واحدٌ يُسمى ( جَلَدْ ) أي الأغنام التي لم تَلِدَ في ذلك الموسم ، وآخر يُسمى ( رَغَثْ ) أي الأغنام التي توالدت في ذلك الموسم . وفي بدايات الستينات من القرن الماضي كان يعمل لدى والدي راعٍ إسمه / صبيح الردون الحجابا ( أبو عبدالله ) ، وكان رجلاً مُخلِصاً ، مستقيماً ، وقد مَرَّ على عملهِ مع والدي قُرابة ( ١٣ ) عاماً مُتصِلة .
وكان الراعي ابو عبدالله يسرح مع قطيع الرغث ، أي الشياه التي توالدت في ذلك الموسم . وكان الوقت قبل مغادرتهم القرية وذهابهم للربيع في بيوت الشَعر ، في الصحراء الأردنية الشرقية الممتدة من القطرانه الى غدير الأعوج بالقرب من الحدود السعودية الأردنية شرقاً . وكان من عادة الأقارب التزاور بين صلاتي المغرب والعشاء . فأتى أحد أبناء عمومة والدي زائراً كعادتهِ ، وهو / عبدالسلام بن عبدالرحمن بن مسلم الملاحمه ( ابو سليم ) — والده ووالدي أبناء عَمّ ( لَزَمْ ) ، وكانت تربطهما علاقة قوية جداً . وكلنا جالسون حول ( جورة النار ) موقد النار المحفور في الأرض ، إلتفت ابا سليم وقال ممازحاً الراعي أبو عبدالله : شلونك يا ابو عبدالله ؟ رد : من الله بخير ، وأكمل : قبل ثلاثة أيام او أربعة ، وإنت ( موجه ) أي عائد للبيت ، الغنم ( طَبّتْ ) أي أكلت من الزرع ، في أرضي !؟ رد الراعي : والله يا ابو سليم الغنم وهي موجهه وحَانِّه لموالديها ، ما قدرت عليها ، ( ومَرَشَتْ ) أكلت شوي من طرف ( المارس ) ، أي قطعة الأرض . قال ابو سليم : لو ما كانت غنم أبو صالح ( يعني والدي ) ، لكنت عرفت كيف ( أتفاهم معاك ) اي أتصرف معك . تدخل والدي المعروف بهدوئه الشديد ، صبركم : وقال مخاطباً الراعي : شو اللي صار يا ابو عبدالله !؟ وقصّ له القصة ، ثم سأل والدي : متى حصل !؟ رد الراعي : قبل ثلاثة أيام او أربعة . سأل والدي بِحدة : ليش ماخبرتني ، كان رُحت لأبو سليم وخبرته ، وإستسمحته !؟ فرد الراعي : والله غابت عن بالي يا ابو صالح . قال والدي : نسواني الثنتين طالقات ما تظل مع غنمي من هالساعة ، ( وشرطك )أجرتك بتوخذها عن سنة كاملة كأنك سرحت سنة كاملة . فَزّ ، ابو سليم ، ووجهه ممتقع ، وغاضب جداً ، لا يا أبو صالح ، كلنا بنعرف انه ابو عبدالله ما بيتعدى على زرع الناس من تشديدك عليه ، وانا وانت مثل الاخوان ، فالله يرضى عليك رد يمينك . وشدد والدي القسم ، بطريقة لا يمكن تجاوزه حيث كان قَسماً قاطعاً . وتدخل أخي الأكبر / صالح ، مخاطباً ابو سليم ، گيف لعاد !؟ اللي سواه مو صحيح ، وهو بيعرف اننا لا يمكن ان نتعدي على زرع أحد سواء القرايب او البعيدين . وعاود ابو سليم التدخل ، الا ان والدي قال له : يا ابو سليم معاك ما فيه مشكلة ، ولو خبرني كان استسمحتك، لكن ابو عبدالله حوّل الحلال الى حرام ، وأولادي يشربون حليباً حراماً منذ أربعة أيام . فأُحرِجَ ابو سليم حرجاً شديداً ، وقال : لو إني زعلان يا ابو صالح كان ما سكتت أربعة أيام .
إختلط الحابل بالنابل ، وبدأ أبناء الراعي وزوجته بالبكاء . لكن الأمر حُسم بيمينٍ غليظٍ من والدي . وفي اليوم التالي ، أحضر ابو سليم عَمّه شيخ العشيرة الحاج / أحمد بن مسلم الملاحمه ( ابو سعيد ) ، وعدد من رجالات عشيرة الملاحمه ، لكن والدي لم يستجب لرجائهم ، قائلاً لهم : يميني لا يمكن تجاوزه وإسألوا شيوخ الدين . وبعد يومين أحضر الراعي جاهة من شيخين جليلين هما : الشيخ / أحمد بن مطلق المبيضين ، وهو نسيب الملاحمه ، كما ان الملاحمه خواله ، والشيخ / عبدالحليم بن سليمان الضمور ، وهو خالي ، ونسيب والدي ، والملاحمه خواله أيضاُ ، وأخذوا واجبهم بتقديم الغداء لهما ، دون حلّ المشكلة ، لنفس السبب بأن يمين الطلاق لا يمكن تجاوزه شرعاً . وآخر وساطة كانت أيضاً من شيخين كركيين جليلين هما : الشيخ / عبدالقادر المحادين ، والشيخ / إشتيان الصمامة المدادحة — لانه كانت تربطهما علاقة طيبة مع والدي ، حيث كانوا يلتقون عند تاجرين شاميين في مدينة الكرك ، هما (عكاش واللبابيدي ) ، لكن لم يستجب والدي ، معتذراً ان يمينه لا يمكن تجاوزه ، واذا ودّ ان يكرمهما فإن طلاق زوجتيه الإثنتين سيقع ، وقدّم والدي واجب الغداء لهما وغادرا . وكانت المفاجأة من الشيخ / إشتيان المدادحة ان قال للراعي : ستعمل معي ، وسأعطيك ( شرط ) أي أُجرة سنة كاملة ، وبهذا ستحصل على أجرة سنتين في سنة ، أجرة من ابو صالح ، وأجرة مني ، على أمل ان يجد ابو صالح حلاً وتعود للعمل معه . ولم يعد الراعي ابو عبدالله للعمل مع والدي . لكن والدي إستمر على مودته معه حتى توفاه الله ، وإستمر على مودة إبنه / عايد — لأن إبنه الكبير عبدالله توفاه الله — الى ان توفي والدي عام ٢٠١٣ عن ( ١٠١ ) عاماً . ولم تكن مودة والدي للراعي ابو عبدالله إستثناءاً او ندما او تكفيراً لِظُلمٍ أصاب الراعي ، بل كان والدي يحرص على إستمرار علاقته ووده مع كل من عمل عنده من الرُعاة والحصادين والخدم .
هكذا كُنّا عامة في وطني الحبيب ، والإستثناء محدود ، وقليل جداً حتى يكاد يصل حَدّ النُدرة . فما الذي غيّرنا !؟ وما الذي أجهض وغيّب القول الشعبي المأثور : ( الرجل بيرتبط من إلسانة ) وتعني الوفاء بالوعد والعهد والتعاقد بدون تدوين . لله درنا ، خلعنا حُلتنا الجميلة التي تتصف بالوفاء ، والبعد عن الحرام ، وإرتدينا صفات غريبة أقل توصيف لها أنها ( عار ) .
الحمد لله أنني انا وإخوتي وكل تفرعات والدي الأحياء منهم والأموات لم نقترب من الحرام بكافة أشكاله ونَفِرُّ منه فرار الحطّاب من أسدِ الغاب .




