في عالمٍ يغرق في سيولة الأرقام الافتراضية، حيث تُطبع النقود بضغطة زر وتتغير قيمة الثروات ببيان صحفي يظل هناك كيان صلب لا يكترث لتقلبات المزاج البشري، إنه الذهب. لم يعد هذا المعدن مجرد أداة للتحوط، بل تحول إلى مؤشر صريح على تآكل الثقة في النظام النقدي العالمي ليصبح “التمرد الصامت” الذي يتبناه المستثمرون والدول على حد سواء. إن صعوده الأخير ليس دورة سعرية عابرة، بل هو تحول هيكلي يستدعي قراءة تتجاوز الرسوم البيانية إلى جيوسياسية المال.
إن ما نشهده اليوم هو نتاج تضافر قوى دافعةاجتمعت بزخم غير مسبوق، حيث قفزت أسعار الذهب بنسبة تجاوزت 30% خلال العام الأخير، مدفوعة بـ “إزالة الدولرة” الهادئة. فالبنوك المركزية أضافت أكثر من 400 طن من الذهب إلى احتياطياتها في النصف الأول من عام 2025 وحده، بزيادة قدرها 24% عن متوسط السنوات الخمس الماضية. هذا التحول الجيوسياسي جعل الذهب العملة الوحيدة التي لا تحمل جنسية ولا تخضع لعقوبات، مما دفع بمؤسسات كبرى مثل “جي بي مورغان” و”مورغان ستانلي” لتوقع وصول الأونصة إلى مستويات تتراوح بين 3800 و 5000 دولار بحلول عام 2026.
وبينما يتصارع الفيدرالي الأمريكي مع تضخم عنيد، يجد الذهب نفسه في وضع فريد؛ فرغم الفائدة المرتفعة، إلا أن الخوف من الركود التضخمي دفع المستثمرين للعودة إليه كضمانة نهائية. هذا الطلب لم يعد حكراً على الصناديق التقليدية، بل امتد للأفراد عبر صناديق المؤشرات المتداولة التي شهدت تدفقات بمليارات الدولارات. إننا أمام نقلة نوعية في تقييم المعدن الأصفر، حيث لم تعد الأرقام القياسية التي كسرها حاجز 2700 دولار للأونصة سوى محطة في رحلة صعود أطول.
لا ينفصل السوق الأردني عن هذه الديناميكيات، لكنه يمتلك خصوصية تجعل التقلبات العالمية تترجم فوراً إلى “غرفة المعيشة” الأردنية بسبب ربط الدينار بالدولار. ومع وصول سعر غرام الذهب عيار 21 في السوق المحلية إلى مستويات قياسية لامست 91 ديناراً، شهدنا تحولاً جذرياً في سلوك المستهلك. فالذهب في الوجدان الأردني انتقل من كونه “زينة” إلى “تأمين ضد المجهول”، حيث زاد الطلب على السبائك والليرات الذهبية بنسب ملحوظة مقارنة بالمشغولات التقليدية، مما يعكس وعياً بحفظ القوة الشرائية في ظل تضخم عالمي لا يرحم.
أما فيي التصور المستقبلي، فإن الذهب لا يزال في بداية موجة صعود هيكلية. فما دامت المخاطر الجيوسياسية قائمة والثقة في العملات الورقية تتضاءل، سيظل الذهب هو الملاذ الأخير. بالنسبة للمستثمر الأردني، فإن هذا يعني استمرار ارتفاع الأسعار المحلية، وتزايد الفجوة بين الطلب الاستثماري والتقليدي. إن الذهب هو الشهادة الحية على أن الثقة الحقيقية لا تُطبع في المطابع المركزية، بل تُصهر في أفران التاريخ، وفي هذا العصر المضطرب، يظل هو اللغة الوحيدة التي تفهمها جميع الحضارات دون الحاجة إلى وسيط.




