عماد داود
الدول ليست كائنات صمّاء تُدار باللوائح وحدها، ولا آلات ميكانيكية يكفي أن نضغط أزرارها فتعمل، بل هي كائنات حيّة، لها ذاكرة وطباع وخبرات متراكمة، ولها ما يشبه الضمير الجمعي الذي يتكوّن عبر الزمن!، وفي لحظات التحوّل الكبرى، لا يكون السؤال: من يحكم؟ بل: من يُجيد الإصغاء إلى ما تقوله الدولة لنفسها؟
وهنا تحديدًا يولد مفهوم «ترجمان الدولة".
الترجمان ليس صانع رؤية من فراغ، ولا خطيبًا يبتكر لغة من الهواء، بل هو ذاك الذي يفهم اللغة القديمة للدولة، يقرأ إشاراتها الصامتة، ويعيد نطقها بلغة الزمن الراهن. هو الذي يعرف متى تتكلم الدولة، ومتى تصمت، ومتى تهمس!
الأردن، منذ نشأته، لم يكن دولة فائضة الإمكانات، بل دولة فائضة الوعي. نشأ في جغرافيا قاسية، وموارد محدودة، وتوازنات إقليمية معقّدة، ومع ذلك بُني بعقل يعرف أن السيادة لا تُستورد، وأن البقاء لا يتحقق بالصوت العالي بل بالحساب الدقيق. لذلك لم تكن مصفاة البترول صدفة، ولا الجامعة المبكرة ترفًا، ولا الفوسفات مجرد حظ جيولوجي!. كانت جميعها نتاج عقلٍ قرر أن يبني دولة قبل أن يعلن عنها، وأن يزرع لمئة عام قادمة لا لدورة سياسية عابرة!
العقل التأسيسي ذاك لم يكن مثاليًا، لكنه كان جريئًا بقدر محسوب. خاطر حين كان الخوف منطقيًا، وبنى حين كان الانتظار أكثر أمانًا. ومع الزمن، تحوّلت تلك الجرأة إلى ذاكرة، ثم إلى معيار يُقاس عليه الحاضر.
لكن الدول، مثل البشر، تتعب!
مع تعقّد العالم، وتزايد الضغوط الاقتصادية، وتراكم الإخفاقات الصغيرة، بدأ عقل الدولة يتحوّل من عقل يبني إلى عقل يُدير. من مخيلة ترى المستقبل، إلى يد تحاول منع الانهيار. هنا لم يعد السؤال عن النوايا، بل عن القدرة على استعادة المعنى!
في هذا السياق يظهر جعفر حسان، لا بوصفه «منقذًا»، بل بوصفه ترجمانًا!. رجل لم يأت من ضجيج المنابر والصالونات السياسية، بل من عمق مطبخ القرار، من المساحة التي تُختبر فيها الأفكار قبل أن تُعلن، وتُقاس فيها الكلمات بآثارها لا برنينها. من مكتب الملك حيث تُفحص القرارات لا بميزان اللحظة، بل بميزان التاريخ.
فلسفة جعفر حسان ليست فلسفة القفز، بل فلسفة الترميم الواعي. الترميم هنا ليس ضعفًا، بل شجاعة من نوع آخر: شجاعة الاعتراف بأن العلاقة بين الدولة والمواطن تضرّرت، وأن الثقة لا تُستعاد بخطاب، بل بخطوات صغيرة صادقة!. لذلك تبدو قراراته، في ظاهرها، هادئة، محدودة، بلا بهرجة. لكنها في عمقها محاولات لإعادة ضبط البوصلة الأخلاقية للدولة.
كتابه «الاقتصاد السياسي الأردني: بناء في رحم الأزمات» ليس ترفًا فكريًا، بل وثيقة وعي؛ فيه اعتراف بأن الأزمات ليست طارئة، بل بنيوية، وأن الخروج منها لا يكون بتجميل الأرقام ولا بتأجيل الحقيقة، بل بإعادة تعريف معنى النمو، والعدالة، وكذلك الدور الاجتماعي للدولة.
غير أن الترجمة، مهما بلغت دقتها، لا تكفي إن لم تُفتح نافذة على المستقبل. وهنا يأتي مشروع «عمرة» بوصفه أكثر من مشروع عمراني. هو عودة محسوبة إلى روح التأسيس، ولكن بأدوات القرن الحادي والعشرين، فكما كانت المصفاة يومًا استثمارًا سياديًا في زمن الفقر، تأتي عمرة اليوم كاستثمار استراتيجي في زمن التعقيد: مدينة ذكية، متصلة، مخططة خارج منطق الارتجال، مرتبطة برؤية التحديث الاقتصادي، وبمشاريع كبرى في المياه والنقل والطاقة.
«عمرة» ليست وعدًا سهلًا، لكنها إشارة!. إشارة إلى أن الدولة لم تكتفِ بإصلاح الشقوق، بل بدأت تفكر مجددًا في البناء. وأن الترميم لم يعد غاية بحد ذاته، بل مقدمة لانطلاقة أوسع، أكثر اتزانًا وأقل صخبًا!
الخطر الحقيقي لا يكمن في البطء، بل في الاكتفاء به!، والدولة التي تُجيد الترميم لكنها تخشى الطموح، تخاطر بأن تتحول إلى إدارة أزمة دائمة!.
الامتحان الحقيقي أمام جعفر حسان ليس في ضبط الإيقاع، بل في اللحظة التي يقرر فيها أن الهمس آن له أن يتحول إلى فعل كبير، دون أن يفقد صدقيته!
الأردن لم يخلُ يومًا من العقل، لكنه يحتاج دائمًا إلى من يُصغي إليه بصدق. وجعفر حسان، في هذه المرحلة الدقيقة، يبدو أقرب ما يكون إلى ترجمان يفهم أن الدولة لا تطلب التصفيق، بل الفهم، ولا تبحث عن الضجيج، بل عن من يسمع نبضها الخافت!
الدول العظيمة لا تُخلَّد بما تقوله في لحظة، بل بما تفعله عبر زمن!
والأردن، إن كان له سرٌّ واحد عبر مئوية كاملة، فهو أنه عرف متى يتكلم، ومتى يصمت، ومتى يهمس....
والهمس، حين يكون صادقًا، قد يصنع تاريخًا...!




