*
الثلاثاء: 23 ديسمبر 2025
  • 21 ديسمبر 2025
  • 19:49
مخطئٌ من ظنّ يوماً أن للاحتلال ديناً
الكاتب: عماد داود

مخطئٌ من ظنّ يوماً أن للاحتلال ديناً!

حين يرتدي القاتل ثوب الواعظ، ويُغتال الفرح باسم القداسة!

"برز الثعلب يوماً في شعار الواعظينا..!"، ليس بيتاً من قصيدةٍ قديمة لشوقي فحسب؛ بل صورة معاصرة تمشي على ركام غزة، ومرآة كاملة لزمننا!

الثعلب يرتدي أثواب السلام، ويتدثر برداء القداسة، ويتكلم بلغة الأخلاق، بينما يده الأخرى مغموسة في دم الطفولة. لم يعد الثعلب استعارة؛ صار دولة، صار خطاباً، صار ماكينة علاقات عامة تقول “الأسف” ببرود، ثم تضغط الزناد بثقة من لا يُحاسَب! هكذا تُستعار اللغة الطاهرة لتغطية أكثر الأفعال دنَساً، وهكذا يُستدعى الدين لا ليهدي، بل ليبرّر!

في غزة، لا يُقتل الناس وحدهم؛ بل تُقتل اللحظة، تُغتال الذاكرة، ويُغمد السكين في خاصرة الفرح نفسه!

في مساءٍ كان ينبغي أن يكون عرساً، تحوّلت مدرسة إيواء إلى مقبرةٍ جماعية. لم يسقط خمسة أشخاص فحسب، بل سقطت ضحكةٌ كانت تحاول أن تنبت بين الركام، وسقطت يدٌ كانت ترفع طفلاً ليرى العالم من فوق الدمار.

القذيفة لا تميّز بين إيقاع الدبكة أو الرقص البريْ ونبض القلب، لكنها تعرف جيداً ما تفعل: تقتل الفرح لأنه أخطر ما يهدد رواية المحتل.

الفرح الفلسطيني دليل حياة، والحياة عند من يبني دولته على الإقصاء جريمة لا تُغتفر. لذلك تُقصف الأعراس، وتُحاصر الأعياد، ويُمنع الصوت الذي يقول إن هذا الشعب ما زال هنا.

وتحت السماء نفسها، في حي الزيتون العريق، كانت شجرة الميلاد تُضاء كل عام، وتُقرع الأجراس لتعلن أن المدينة تتّسع لصلواتٍ متعددة وقلبٍ واحد. اليوم، صار الضوء ذاكرة، وصارت الأجراس حجارة. صاروخٌ واحد حوّل بيتاً وكنيسةً إلى سؤالٍ مفتوح وخبر عاجل!، وسرَق من طفلةٍ معنى العيد، فصارت تعرف الشجرة عبر شاشة هاتف، وتسأل أمّها: متى يأتي بابا نويل؟ سؤالٌ بريء يفضح نظاماً كاملاً: احتلال يسرق الطفولة أولاً، ثم يسرق الفرح، ثم يسرق الذاكرة نفسها.

خمسة وسبعون كيلومتراً فقط بين غزة وبيت لحم، لكنها تحولت إلى جدارٍ أبدي؛ تُغلق الطرق، تُمنع الزيارات، وتُخنق الطقوس. الأرقام هنا ليست حيادية: مئات المسيحيين فقط بقوا حيث كانوا آلافاً، كنائس قُصفت، عائلات محيت، وأجراس صمتت. هي ليست حرباً على دينٍ بعينه؛ بل حربٌ على فكرة التعدد نفسها، على إمكانية أن يتجاور الإيمان والكرامة والحياة.

وفي دهاليز القدس، حيث تُصاغ الأساطير لتصبح أوامر، تُتلى نصوصٌ تُحوِّل “الوعد” إلى غنيمة، والغنيمة إلى سيف.

مجرم الحرب نتنياهو - المطلوب للمحكمة الجنائية الدولية لارتكابه جرائم حرب في غزة- علماني في السياسة، كهنوتي في الحرب، يعرف كيف يستدعي اللغة المقدسة حين يحتاج إلى دمٍ جديد. تُستخرج آيات من سياقها، وتُقدَّم للمدافع باعتبارها تفويضاً. هكذا يصبح الرب، في روايةٍ مشوّهة، صمّاماً يسمع دعاءهم ويصمّ عن أنين أطفالنا. وهكذا تُستهدف المدارس لأن الطفولة، في هذه العقيدة، مشروع “خطرٍ مستقبلي”، وتُستهدف المستشفيات لأن الشفاء يقاوم الموت، وتُستهدف الكنائس والمساجد لأن الروح إذا بقيت، فشل القتل!

التاريخ، إن أُعطي حق الكلام، لا يتلعثم. من دير ياسين إلى كفر قاسم، من صبرا وشاتيلا إلى جنوب لبنان إلى حروب غزة المتتالية، النمط واحد: اتفاقٌ يُوقَّع، ثم يُنقَض؛ لغةٌ ناعمة تعقبها قبضةٌ من حديد؛ ضحيةٌ تُستدعى من الماضي لتبرير ضحايا الحاضر.

"المحرقة" التي عانى منها اليهود صارت، في خطاب السلطة، درعاً أخلاقياً يمنع المساءلة، وترخيصاً لصناعة محرقةٍ جديدة بأدواتٍ أحدث!. وحتى حين يُعلن “وقف إطلاق النار”، لا يتوقف القتل؛ تُسجَّل الخروقات بالعشرات والمئات، ويسقط المدنيون، فيما يُطالَب الضحية بضبط النفس. المفارقة القاسية أن الالتزام يُطالَب به دائماً من الطرف الأضعف، وأن الخرق يصبح امتيازاً سيادياً للطرف الأقوى.

والعالم؟ العالم يعرف. يعرف بالأرقام والصور والتقارير والشهادات. يعرف أن التجويع سياسة، وأن منع الدواء سلاح، وأن تأخير الإسعاف جريمة. يعرف أن الصحفيين يُستهدفون لأن الكاميرا تُحرج القاتل، وأن المعلمين يُقتلون لأن التعليم مقاومة، وأن الأطفال يُجَوَّعون لأن الجوع يُكسِر ما لم تكسره القنابل. ومع ذلك، يختار الصمت أو البيان. تُدان الجرائم في أماكن، وتُبرَّر هنا. تُفَعَّل القوانين حيث لا فيتو، وتُعطَّل حيث المصالح. هكذا يتحول القانون الدولي إلى نصٍ انتقائي، وتصبح الأخلاق جغرافيا سياسية!

لكن تحت هذا الركام، يولد شيءٌ آخر: مقاومة الحياة. عرسٌ بسيط في خيمة، مدرسة في ملجأ، كتابٌ يُقرأ على ضوء هاتف، خبزٌ يُتقاسم بين جيران، شجرةٌ تُزرع حيث قُطع ألف. هذا ليس تمجيداً للألم، بل إدانة لمن يصنعه. لأن شعباً يصرّ على الحياة يفضح من يتغذّى على الموت، ولأن الفرح حين يُقمع يصبح شهادة، وحين يعود يصبح هزيمةً للقاتل!

في نهاية القصيدة، يقول الديك كلمته التي لا لبس فيها: "مخطئٌ من ظنّ يوماً أن للثعلب ديناً.."!. هذا البيت ليس هجاءً أدبياً، بل حكمٌ أخلاقي. إسقاطه اليوم كامل: مخطئٌ من ظنّ يوماً أن للاحتلال ديناً، أو إنسانية، أو رسالة. مخطئٌ من حسب أن القداسة تُمنح لمن يقتل باسمها، وأن السلام يُقاس بعدد البيانات لا بعدد الأطفال الأحياء. الحقيقة أبسط وأقسى: من يقتل الفرح لا يمكن أن يكون صاحب حق، ومن يذبح الطفولة لا يمكن أن يكون واعظاً، ومن يحوّل الإيمان إلى سكين ذبح لا يملك ديناً، بل ذريعة!

في غزة، سؤال طفلةٍ على جدارٍ مهدّم يلخّص العالم: “يا رب، إذا كنت تحبهم كما يقولون، فما ذنبنا نحن؟”. ذلك السؤال هو البلاغ كله، وهو الامتحان!. 

فلسطين ليست خبراً عاجلاً ولا ملفاً مؤجلاً؛ فلسطين مرآة الضمير الإنساني. ومن لم يرَ نفسه فيها اليوم، فسيبحث عنها غداً في كتب التاريخ، حيث تُكتب الجملة ذاتها مرةً أخرى، بحبرٍ أثقل: كان العالم يعرف… واختار أن يصمت!

[email protected]

مواضيع قد تعجبك