خبرني - في زوايا حياتنا المُتعددة، من أقرب العلاقات إلى أبعدها، بات الإنسان يقف أمام ظاهرة واضحة لا تحتاج لكثير من البحث؛ ألا وهي وجوه تبتسم وتُثني وتُظهر الود لكنها في اللحظة ذاتها تُخفي ما هو نقيض ذلك تمامًا؛ بمعنى أنَّ الابتسامة لم تعد مرآة للقلب والكلمة اللطيفة لم تعد دليل صدق والمواقف لم تعد ثابتة، نحن اليوم نعيش في مجتمع يُتقن التلوّن، مجتمع لا يُظهر وجهًا واحدًا، بل وجوهًا متعدّدة، تتغير تبعًا للشخص والمصلحة والظرف، كأننا أمام مسرح كبير، كل شخص فيه يؤدي دوره بإتقان، ثم يخلع قناعه حين تنتهي المسرحيّة.
وفي تفاصيل بسيطة تحدث كل يوم تزداد صور هذا التلوّن حضورًا؛ فكم من شخص يمدحك أمام الآخرين، يرفع من شأنك، يُظهر إعجابه بعملك، ويؤكد أنك تستحق الأفضل، ولكن ما إن تغادر المكان، حتى يتبدل الخطاب، ويبدأ الحديث الحقيقي: انتقاد، تقليل، استخفاف، أو حتى محاولة التشكيك في قدراتك، ونجد الاختلاف الكبير بين الكلام أمامك والكلام عنك لم يعد يُفاجئ أحدًا، لأنه أصبح جزءًا من ثقافة واسعة يمارسها الكثيرون دون شعور بأنهم يرتكبون خطأ أخلاقيًّا، وكأنَّ قيمة الصراحة لم تعد شرطًا، بل مجرد خيار اجتماعي يمكن تجاوزه بسهولة.
وما يزيد الأمر تعقيدًا أن دوائر القربى ليست بعيدة عن هذا التناقض، فنجد من الأقارب والأصدقاء من يُظهرون اهتمامًا مُبالغًا فيه، يسألون عنك، يتحدثون بلطف، يبدون إعجابًا بإنجازاتك، ثم تكتشف لاحقًا أن كل هذا لم يكن سوى “مجاملة مُنمّقة”، تُقال فقط لتمرير الوقت أو للحفاظ على توازن اجتماعي هشّ، وربما أيضًا تصلك روايات عنهم بعد غيابك تكشف رأيًا آخر تمامًا، رأيًا لا يمت بصلة لما قيل لك، هذا النوع من النفاق العائلي بات يُشكّل ضغطًا نفسيًا لا يمكن تجاهله، لأن الإنسان بطبيعته يظن أن محيطه الأقرب هو الأكثر صدقًا، ولكن الواقع اليوم يقول غير ذلك: الأقنعة موجودة حتى بين الدم والقربى.
وفي بيئة العمل، يبدو المشهد أكثر وضوحًا، فبعض المؤسسات أصبحت مسرحًا واسعًا لعرض الوجوه المتعددة، موظف يجامل مديره لدرجة المبالغة، يحفظ عبارات الثناء، يختلق أعذارًا، يظهر ولاءً لا علاقة له بالعمل، ثم يتحول في غياب المدير إلى ناقد ساخط، وآخر يتبنّى جهود غيره، يحرص على الظهور في كل صورة، يزيّن كل إنجاز ليبدو منسوبًا إليه، ويضع كلامًا معسولًا في الواجهة كوسيلة للصعود المهني، بدلًا من الكفاءة الحقيقية، وزميل ثالث يضحك مع الجميع، يتقن الدور الاجتماعي، لكنه ينقل الكلام ويصنع التوترات، وكأنه يُحافظ على شبكة مصالح لا تتماسك إلا بالنفاق.
هذه السلوكيات مجتمعة تُنتج بيئة عمل غير صحية، تُنهك أصحاب المبادئ، وتُعطي الأفضلية لمن يرتدون الأقنعة، وهكذا يُصبح تقدّم البعض في السلّم الوظيفي ليس بالجد والاجتهاد، بل بالقدرة على الظهور بمظهر مُحبّب يخدم المصلحة، ومع مرور الوقت، يفقد الموظف الصادق شغفه ويبدأ يشكّ بكل سلوك حوله، بينما ينتعش الموظف المتلوّن لأنه لا يرى في النفاق مشكلة بقدر ما يراه “طريقًا مختصرًا”.
لكن لماذا ينتشر هذا التلوّن؟ بالطبع الأسباب متعددة وجزء كبير منه نفسي؛ فبعض الأشخاص يخشون المواجهة، لا يملكون الجرأة لقول الحقيقة، فيختارون الوجه المصنّع، والبعض الآخر يعاني من نقص داخلي، فيحاول تعويضه عبر إظهار الود الزائف، وهناك دوافع اجتماعية مُتجذرة، حيث تربّت مجتمعات كاملة على “المجاملة المبالغ فيها” حتى أصبحت تُشبه النفاق دون أن تشعر، أما الدافع الأخطر فهو غياب المبادئ، فحين يصبح الموقف مرنًا والمصلحة ثابتة، تتلقى القيم ضرباتها واحدة تلو الأخرى إلى أن يسقط الصدق في آخر القائمة.
ويمكن رؤية مشاهد هذا التلوّن في حياتنا اليومية بسهولة: شخص يُهنئ صديقه على نجاحه ثم يقلل من شأنه في مجلس آخر، قريب يشاركك الفرح في مناسبة لكنه يلمح لاحقًا بأن إنجازك لا يستحق، زميل عمل يبتسم لك في المكتب ثم يكتب تقريرًا سلبيًا بحقك، أو حتى شخص على مواقع التواصل يترك تعليقًا لطيفًا بينما يرسل رسائل مختلفة تمامًا في الخفاء، أمثلة كثيرة تكشف طبيعة هذا المجتمع الذي أصبح فيه “القول شيء… والفعل شيء آخر”.
كل هذا يترك أثرًا نفسيًا عميقًا: تراجع الثقة بين الناس، انكسار العلاقات، تزايد الشك، وظهور حالة قلق اجتماعي بسبب صعوبة التمييز بين الصادق والمزيّف، ويصبح الإنسان مرهقًا وهو يحاول قراءة الوجوه وفهم النوايا، خصوصًا حين يرى أن الصراحة أصبحت تُفسَّر على أنها وقاحة، بينما التلوّن يُعتبر ذكاءً اجتماعيًا.
ورغم هذا المشهد القاتم، يبقى هناك أشخاص صادقون، قليلون، لكن حضورهم يعيد التوازن، أشخاص لا يغيرون وجههم، ولا يبدّلون مواقفهم مهما تبدلت المصالح، هؤلاء يمثلون الجوهر الحقيقي للعلاقات الإنسانية، ويعيدون الثقة في أن الصدق لم ينقرض، وإن كان نادرًا، وجودهم يُذكّر بأن الصراحة ليست صفة قديمة، بل ضرورة للحفاظ على مجتمع صحي، وأن المبدأ ليس رفاهية، بل أساس لكل علاقة تستحق أن تُسمى “إنسانية”.
ويبقى التعامل مع واقع الوجوه المتعددة مسؤولية فردية، وليس المطلوب أن نُصادم الجميع أو أن نشك في كل كلمة تُقال، بل أن نُحسن اختيار دوائرنا، ونراقب الأفعال أكثر من الأقوال، ولا نمنح الثقة بسهولة، ونحافظ على قيمنا مهما تغيّر الآخرون؛ فالعلاقات الحقيقية لا تحتاج إلى أقنعة، والوجوه الصادقة لا تتغير بتغير الزمان والمكان، أما الوجوه المصطنعة، فمهما أتقنت التمثيل، ستسقط في أول اختبار؛ لأن الحقيقة مهما تأخرت، لا تختفي.




