خبرني - كتبت د.ايات الشاذلي
في لوح شطرنج المالية الدولية، حيث تتشابك مصالح الدول الكبرى والمؤسسات العابرة للقارات، يجد الاقتصاد الأردني نفسه لاعباً يمتلك مهارة تكتيكية عالية، لكنه يواجه خصوماً أقوياء وظروفاً إقليمية معقدة. إن الحديث عن الدين العام ليس مجرد سرد للأرقام، بل هو تحليل استراتيجي لقرارات مفصلية تحدد مستقبل الأجيال. هذا هو جوهر لعبة “شطرنج الديون” التي يديرها الأردن ببراعة تارة، وبحذر بالغ تارات أخرى.
إن أول ما يلفت النظر في هذه اللعبة المعقدة هو حجم التحدي الهائل؛ إذ تتجاوز أرقام الدين العام الإجمالي حاجز الـ 44 مليار دينار، وهو رقم يفرض ثقلاً لا يمكن تجاهله على كاهل الموازنة العامة. ومع ذلك، لا يمكن إنكار أن الإدارة المالية الأردنية قد أظهرت انضباطاً استراتيجياً لافتاً في السنوات الأخيرة. لقد نجحت الحكومة، عبر التزامها ببرامج الإصلاح المدعومة من صندوق النقد الدولي، في الحفاظ على استقرار مالي قل نظيره في منطقة مضطربة. هذا الالتزام ليس مجرد امتثال لمتطلبات دولية، بل هو قرار سيادي يهدف إلى بناء مصداقية دولية، وهو ما انعكس في قدرة الأردن على الوصول إلى أسواق التمويل بشروط أفضل نسبياً. إن الهدف المعلن بخفض نسبة الدين إلى الناتج المحلي الإجمالي لتصل إلى 80% بحلول عام 2028، من نسبة تتجاوز الـ 90% حالياً، هو دليل واضح على وجود بوصلة استراتيجية تسعى لترسيخ الاستدامة المالية. هذه هي الخطوات الأولى التي تُشيد بها، والتي مكنت المملكة من تجنب سيناريوهات مالية أكثر قتامة.
لكن، وكما في أي لعبة شطرنج، فإن النجاح التكتيكي لا يضمن الفوز الاستراتيجي. فـ المشكلة الحقيقية لا تكمن في حجم الدين المطلق فحسب، بل في المشلة الهيكلية التي تمنع الناتج المحلي الإجمالي من النمو بالسرعة الكافية لتقليص النسبة. يظل الاقتصاد الأردني يعاني من تباطؤ في محركات النمو الأساسية، ومن تحديات مزمنة مثل ارتفاع كلف الطاقة، وضعف الاستثمار الأجنبي المباشر في القطاعات الإنتاجية، واستمرار الضغط على سوق العمل بسبب الأوضاع الإقليمية. إن الاعتماد المفرط على أدوات السياسة المالية التقليدية، كالضرائب غير المباشرة أو خفض الإنفاق الرأسمالي، قد ينجح في تجميل الأرقام على المدى القصير، ولكنه يخنق إمكانات النمو المستقبلي، مما يجعل مسار خفض الدين شاقاً ومحفوفاً بالمخاطر. إن هذا التباطؤ هو “الوزير” الذي يجب التضحية به لإنقاذ “الملك” (الاستقرار الاقتصادي).
لذا، يجب أن تتجاوز استراتيجية الأردن الحالية حدود الصناديق التقليدية التي تفرضها المؤسسات الدولية. الحلول الإبداعية تكمن في تحويل التحدي إلى رافعة مالية. يجب على الأردن أن يتبنى استراتيجية “التحويل الاستراتيجي للديون”. فبدلاً من مجرد إعادة الجدولة، يمكن التفاوض على مقايضة الديون مقابل التنمية (Debt-for-Development Swaps)، حيث يتم تحويل جزء من الدين الخارجي إلى استثمارات محلية بالدينار الأردني، تُخصص لتمويل مشاريع البنية التحتية الخضراء أو برامج التعليم المهني التي تخلق فرص عمل حقيقية. هذا يخدم هدفين: تخفيف عبء العملة الصعبة، وضخ سيولة موجهة نحو النمو المستدام.
بالإضافة إلى ذلك، يجب تفعيل الرافعة المالية للأصول السيادية. يمتلك الأردن أصولاً استراتيجية ذات قيمة عالية (كالموانئ، وشركات الخدمات العامة، والأراضي) يمكن استخدامها بذكاء. لا يعني هذا البيع، بل يعني إعادة هيكلة ملكيتها أو إدارتها عبر شراكات استراتيجية تدر عوائد غير ضريبية ضخمة. تخيلوا لو أن صندوقاً سيادياً أردنياً، يدار بمهنية عالية وشفافية مطلقة، أصبح قادراً على توليد إيرادات سنوية تساهم في خدمة الدين، بدلاً من الاعتماد الكلي على جيب المواطن. هذا هو التحرك الجريئ الذي يغير قواعد اللعبة، ويحول “شطرنج الديون” من لعبة دفاع إلى هجوم استراتيجي.
إن معركة الدين العام ليست معركة أرقام، بل هي معركة إرادة ورؤية. لقد أثبت الأردن قدرته على الصمود التكتيكي، ولكن الفوز الاستراتيجي يتطلب جرأة في اتخاذ قرارات غير تقليدية. يجب أن ندرك أن كل تأخير في تبني حلول إبداعية هو بمثابة خطوة تكتيكية خاطئة على لوح الشطرنج. إن مستقبل الأردن الاقتصادي يعتمد على قدرتنا على تحويل عبء الدين إلى رافعة نمو، وهذا يتطلب قيادة اقتصادية مستعدة للعب خارج القواعد المألوفة.
* محللة في الإقتصاد والاستراتيجيات الدولية




