*
الاثنين: 08 ديسمبر 2025
  • 14 نوفمبر 2025
  • 23:54
الكاتب: نبيل عبد الحميد البستنجي

خبرني - في زاويةٍ صغيرةٍ من هذا الوطن؛ يقف طفلٌ اسمه أمير نبيل البستنجي؛ لا يحمل سيفًا ولا راية، بل يحمل معدةً تخاف من رغيفٍ، وجسدًا يقاوم فتاتَ الخبز كما يقاوم الجنديُّ الرصاص.
طفلٌ لا يطلب أكثر من أن يأكل مثل باقي الأطفال؛ دون أن تتحوّل اللقمة إلى خطرٍ، ودون أن يصبح الحليبُ عدوًّا والمعكرونةُ فخًّا.

أمير مصابٌ بمرضٍ اسمه السيلياك — أو كما يسميه الطبّ "حساسية القمح"، ويسميه الأب "الوجع الذي لا يُشفى" — مرضٌ مناعيٌّ قاسٍ يجعل الجسدَ يثور على نفسه؛ يدمّر أمعاءه، ويُهدّد كبدَه ونموَّه إن تساهل يومًا في الحمية.
لا علاج له سوى الالتزام الصارم بطعامٍ بلا غلوتين؛ وطعامُه هذا أغلى من الذهب وأندرُ من العدالة.

تخيّلوا أنَّ ربطة الخبز التي تُباع لنا بدينارٍ، تُباع لأمير باربعه؛ وأن صلصةَ الطماطم التي نُضيفها على المعكرونة تُباع له بستة؛ وأن الشوكولاتة التي تُفرح قلوب الأطفال جميعًا لا تُفرح قلبه إلا إن دفع والده دينارًا ونيفًا.
بل حتى المعكرونة التي تُسلق في دقائق، تكلف عائلته دينارين وثمانون قرشآ للكيلوغرام؛ وكأن كلّ حبةٍ منها تُستخرج من منجمٍ في دابوق أو عبدون.

أمير لا يعرف طعم “الحرية الغذائية”؛ يعيشُ في بيتٍ تُخبّأ فيه الأرغفةُ كما تُخبّأ الأسرار؛ وتُخفى الحلوياتُ في الخزائن كما تُخفى الدموع.
وحين تغلبه طفولته، يسرق قطعة معمول، يختبئ تحت السرير، يأكلها خلسةً كأنها جريمة، ثم يُعاقبه جسده قبل أن يعاقبه أحد.

وذات مساءٍ، خبّأ أمير رغيفًا صغيرًا في بطنه، تحت ملابسه، كمن يُهرّب الحلم من فم الجوع.
مشى بخطواتٍ مرتجفة إلى غرفته، ظانًّا أن أحدًا لن يراه.
لكنّ عمه الأكبر لمحتْه عيناه، فاقترب بهدوءٍ، وحين رفع قميص الطفل رأى الرغيفَ مستقرًّا على بطنٍ نحيلٍ كالقمر، فبكى الرجلُ بصوتٍ خافتٍ… بكى لأنّ رغيفًا واحدًا صار يُخبّأ كما يُخبّأ السرّ والعيب، ولأنّ الجوع في هذا الوطن لم يعد جوعَ الخبز، بل جوعَ العدالة والرحمة.

أبوه موظفٌ بسيطٌ لا يتقاضى سوى راتبٍ بالكاد يكفي منتصف الشهر؛ ومع ذلك يقف كلّ يومٍ أمام رفوف عبدون، يعدّ الأسعار بيدٍ ويراقب ابنه بالعين الأخرى، يخاف أن يراه جائعًا، أو أن يراه ينهار أمام قطعة شوكولاتةٍ محرّمة.
ثمانون دينارًا للمكملات والفيتامينات، وتسعون للخبز وحده، عدا البهارات والحليب والصلصات الخاصة…
أرقامٌ تفيض عن القدرة، لكنها لا تفيض عن حبّ الأب وكرامته وصبره.

أمير لا يريد الشفقة، هو يريد أن يعيش ببساطةٍ مثلنا؛ أن يأكل خبزه بلا ألم، أن يضحك دون أن تُحسب لقمةُ الفرح عليه، أن يكون “طبيعيًّا” في عالمٍ لم يترك للطفولة مساحةً آمنة.

وهنا، نوجّه نداءنا لا إلى الناس، بل إلى الدولة.
إلى وزارة الصحّة، ووزارة التنمية، وصندوق المعونة، وكلّ مؤسّسةٍ تُقسم باسم الوطن أن لا تترك أبناءه وحيدين أمام المرض.
أمير ليس حالةً فردية؛ هو مرآة لعشرات الأطفال الذين يحاربون القمح بأسنانٍ صغيرةٍ وقلوبٍ كبيرة.
من حقّه أن تُؤمَّن له الحمية مجانًا، وأن تُدرج حالته ضمن ملفات الدعم الصحي والغذائي، وأن يُعامل كما يُعامل أيّ طفلٍ يحتاج دواءه ليعيش.

يا حكومة هذا الوطن،
أنقذي “أمير” من جوعٍ لا يشبه الجوع، ومن مرضٍ لا يُشفى بالدواء بل بالمسؤولية.
افتحي له باب العدل كما تفتحين أبواب الضرائب، وامسحي عن جبينه قسوة الأسعار كما تمسحين عن الشاشات كلمات الوعود.

فكلّ رغيفٍ يُقدَّم له ليس منّة، بل واجب دولةٍ تجاه طفلٍ يقف على حافة الحياة… ويبتسم.

مواضيع قد تعجبك