خبرني - يشكّل التفريق بين مفهومي المواطن والرعية، كما يقدّمه بعض الباحثين في دراسة النظم السياسية المقارنة، مدخلاً مهمًا لفهم طبيعة الدولة ما بعد الاستعمار في العالم العربي. فالدولة الحديثة التي ورثت جهاز الحكم الاستعماري استعادت شكله المؤسسي، لكنها لم تتجه نحو إعادة بناء العلاقة بين السلطة والمجتمع على أسس المواطنة السياسية، بل حافظت على البنية التي تقوم على الفصل بين فئة تتمتع بالحقوق السياسية (المواطنين)، وأخرى تخضع لسلطة الدولة دون امتلاك أدوات المشاركة (الرعية). ومن هنا يظهر أن جوهر الإشكالية لا يكمن في "شكل الدولة"، بل في بنيتها الاجتماعية والسياسية وطبيعة توزيع السلطة داخلها.
ويبرز هذا النموذج في السياق من خلال إعادة إنتاج الولاءات التقليدية – الجهوية والطائفية والمناطقية – كأدوات للضبط السياسي، حيث لم تعمل الدولة الوطنية على تفكيك البنى التقليدية أو دمجها في نظام تمثيلي ديمقراطي شامل، بل وظّفتها كقنوات للسيطرة والشرعية. فقد احتفظت النخب المركزية بالثروة والقرار السياسي، بينما جرى التعامل مع المجتمعات المحلية عبر "وسطاء" من شيوخ القبائل أو الزعامات الطائفية أو وجهاء المناطق. وبهذا بقيت أجزاء واسعة من المجتمع في موقع "الرعية" التي تُدار ولا تشارك، وتُعرّف هويتها على أساس انتماء جماعي لا هوية وطنية سياسية.
أما في الحالة الأردنية، فيمكن ملاحظة هذه البنية من خلال التوازن التاريخي بين الدولة والقبيلة. فعلى الرغم من نجاح الدولة الأردنية في بناء جهاز إداري حديث ومؤسسات سياسية مستقرة نسبياً، إلا أنّ القبيلة بقيت إطاراً جوهرياً للتمثيل الاجتماعي والسياسي، لا بوصفها بنية ثقافية فحسب، بل بوصفها قناة توزيع النفوذ والموارد. وقد أدى ذلك إلى استمرار الفصل بين: مواطنٍ يمتلك حقوقاً سياسية شكلية ضمن الإطار القانوني العام، ورعية يتم إدماجها في النظام السياسي عبر وسطاء تقليديين يمنحون الدولة شرعية اجتماعية مقابل امتيازات. وعليه فإن هذا النموذج لا يشير إلى غياب الدولة الحديثة، بل إلى ازدواجيتها: دولة قانون وإدارة حديثة في المركز، وإدارة أهلية أو عرفية في الأطراف. وبالتالي، لا تزال المشاركة السياسية ترتبط بالموقع الاجتماعي والجماعي أكثر من ارتباطها بالفرد بوصفه وحدة سياسية مستقلة.
ومن هنا، تظهر التحديات السياسية الراهنة في الأردن في ثلاثة مستويات:
1. إعادة تعريف المواطنة بوصفها انتماءً سياسيًا متساويًا لا يقوم على التراتبية الاجتماعية.
2. دمج البنى القبلية دون تذويبها، بحيث تتحول من وسيط سلطة إلى رافعة وطنية تُفرز نخب سياسية ناضجة.
3. توحيد بنية القانون بحيث يخضع الجميع لمنظومة قانونية مدنية واحدة، لا لأنظمة عرفية متعددة الفاعلين والمستويات.
ولا يُقصد من تحليل الحالة الأردنية في هذا السياق إسقاط نموذج غربي على الواقع المحلي أو مقارنته به بصورة ميكانيكية، بل توظيف هذا التحليل لفهم خصوصية العلاقة بين الدولة الحديثة والمجتمع التقليدي في إطارها التاريخي والاجتماعي. فالتوتر القائم بين منطق الدولة ومنطق البنى التقليدية لا يمكن تجاوزه عبر تفكيك هذه البنى أو إلغائها، بل من خلال تحويلها من أدوات ولاء اجتماعي إلى قنوات تمثيل سياسي. وبذلك يصبح الإصلاح السياسي عملية تحوّل تدريجي من نمط "الرعية" التي تُدار بواسطة الزعامات المحلية، إلى نمط "المواطنة" التي تُمارَس بوصفها انخراطاً فردياً واعياً في إنتاج السلطة وتوزيعها داخل الدولة.




