خبرني - في الأردن، الذي لطالما راهن على الإنسان باعتباره أغلى ما يملك، يبرز اليوم سؤال جوهري: هل نحن ندخل فعلاً عصر "اقتصاد الكفاءات "؟
لقد تغير مفهوم الاقتصاد والثروة في العالم؛ فلم تعد تقاس بما نمتلك من موارد طبيعية أو أراض أو منشآت، بل بما نملك من عقول قادرة على التفكير والإبداع والتجديد. وفي بلد مثل الأردن، تبدو هذه الفكرة أكثر من مجرد شعار وطني، بل هي اتجاه استراتيجي لا مفر منه.
بدأت ملامح هذا التحول تظهر بوضوح في قطاعات مثل تكنولوجيا المعلومات، التعليم التقني والصناعات المتخصصة التي تعتمد على مهارة الإنسان وخبرته كمصدر أساسي للقيمة المضافة. وهذه ليست قصصاً فردية أو استثناءات، بل نماذج حقيقية لما يمكن أن يكون عليه الاقتصاد الأردني حين يضع الإنسان في قلب المعادلة الإنتاجية لا على هامشها.
فالاقتصاد الحديث لم يعد يقوم على رؤوس الأموال المادية وحدها، بل على الكفاءات القادرة على تحويل المعرفة إلى إنتاج والمهارة إلى إنجاز. في المصانع الأردنية، في شركات التكنولوجيا الناشئة، في الجامعات والمختبرات، تتشكل اليوم ملامح مرحلة جديدة يمكن تسميتها بحق عصر اقتصاد الكفاءات.
إن التحول نحو هذا النوع من الاقتصاد لا يعني استبدال رأس المال المادي بالبشري، بل تحقيق التوازن الذكي بينهما، بحيث يصبح الإنسان هو مركز القرار والتطوير، لا مجرد منفذ له. وهذا بدوره يتطلب بيئة تحفز الإبداع، ونظاماً تعليمياً يواكب احتياجات السوق، وإيماناً مؤسسياً بأن الاستثمار في الإنسان هو الاستثمار الأكثر استدامة وربحاً.
ولا يقتصر مفهوم اقتصاد الكفاءات على المهن التقنية وحدها، بل يشمل جميع أشكال التميز البشري:
من الباحث الذي يسهم في توليد المعرفة وتحويلها إلى حلول عملية تدعم الابتكار والإنتاج.
إلى المصمم الذي يحوّل الأفكار إلى منتجات وخدمات مبتكرة تخلق قيمة مضافة.
فالمبرمج الذي يبني الأنظمة الذكية التي تعزز الكفاءة والإنتاجية.
إلى المدير الذي يقود فريقاً بكفاءة.
والمبادر الذي يحول فكرة إلى مشروع ناجح.
فالمهندس الذي يبتكر حلاً تقنياً.
والمعلم الذي يطور مهارة.
والفني الذي يبرع في التشغيل الذكي.
والصناعي الذي يطوّر منتجاً محلياً يحمل الهوية الوطنية.
والعامل الماهر الذي يتقن تشغيل آلة معقدة.
جميعهم يشكلون اليوم رأس المال الحقيقي الذي يمكن للأردن أن يبني عليه مستقبله الاقتصادي. هؤلاء ليسوا مجرد موظفين أو فنيين، بل أصول اقتصادية لا تقل قيمة عن أي استثمار مادي.
ومن هنا، يصبح لزاماً علينا أن نعيد تعريف التنمية ذاتها. فالتنمية لم تعد تعني إنشاء الطرق والمصانع فقط، بل بناء القدرات التي تشغلها، وتوليد الأفكار التي تديرها. حين نؤمن بأن كل عقل هو مشروع إنتاج، وكل مهارة هي استثمار، نكون قد بدأنا فعلاً ببناء اقتصاد الكفاءات الذي لا يخشى المنافسة، لأنه يعتمد على ما لا يستورد ولا يستنسخ: الإنسان الأردني نفسه.
وقد باتت المنشآت الإنتاجية والصناعية تعتمد اليوم أكثر من أي وقت مضى على العنصر البشري، وعلى الكفاءات التي تجمع بين المهارة التقنية والعلمية والإدارية. وهنا يبرز الدور المحوري للجامعات الأردنية التقنية، التي أصبحت شريكاً حقيقياً في التطوير الصناعي من خلال برامج التعليم التطبيقي، ومراكز الابتكار، والتعاون مع القطاع الخاص في مجالات البحث والتطوير.
كما يبرز الدور المتكامل لكل من وزارة العمل، ومؤسسة التدريب المهني، ومجالس المهارات القطاعية في غرفة صناعة الأردن، التي بدأت مجتمعة في إعادة رسم صورة جديدة للعامل الأردني، كصاحب مهارة عالية قادرة على المنافسة إقليمياً ودولياً.
اقتصاد الكفاءات إذن هو اقتصاد متكامل، يقوم على توظيف الذكاء والخبرة والمعرفة في خدمة التنمية، حيث تتكامل الكفاءات الأكاديمية والعلمية مع المهارات العملية لتشكل منظومة إنتاج وطنية قادرة على المنافسة عالمياً.
ولا يمكن في هذا السياق تجاهل الكفاءات الأردنية في الخارج، تلك العقول التي أثبتت نجاحها في مختلف الميادين، من مستشفيات الخليج إلى مختبرات أوروبا. هؤلاء ليسوا مجرد مغتربين، بل ثروة بشرية عابرة للحدود، لو أحسن استثمارها وفتح أمامها قنوات حقيقية للعودة أو المشاركة، لأمكن تحويلها إلى رافعة اقتصادية هائلة. فاقتصاد الكفاءات لا يعني فقط استثمار ما لدينا، بل أيضاً استعادة عقولنا المهاجرة بطرق ذكية ومستدامة. والتحدي الحقيقي يكمن في تحويل هذا الرصيد البشري إلى قوة داخلية فاعلة، من خلال ربطه بفرص داخل الأردن أو تشجيعه على الاستثمار بخبراته في مشاريع وطنية.
إن التحول إلى اقتصاد الكفاءات يتطلب أن تصبح تنمية المهارات والمعرفة في صلب أي خطة اقتصادية. فحين نوجه السياسات العامة نحو بناء الإنسان لا البنية التحتية فقط، يتحول الأردني من مستفيد من التنمية إلى صانع لها. وحين نؤمن بأن العقول هي المصنع الحقيقي، وأن كل عقل أردني هو مورد اقتصادي، وكل خريج هو فرصة إنتاج، نكون قد وضعنا أقدامنا على طريق المستقبل. عندها فقط سنكتشف أن القوة الصامتة التي ستغير مستقبلنا كانت بين أيدينا منذ البداية.
فالسؤال اليوم ليس: هل لدينا كفاءات؟ بل هل نمنحها البيئة التي تستحقها لتصنع المستقبل؟




