*
الاثنين: 08 ديسمبر 2025
  • 06 أكتوبر 2025
  • 23:56
الكاتب: زياد فرحان المجالي

خبرني - في كل عصرٍ من عصور الطغيان، يظهر "فرعون" جديد، يختلف الاسم وتبقى الفكرة ذاتها: الخوف من الرضيع.
من ذاك الذي وُضع في تابوت من قصبٍ على نهر النيل، إلى ذاك الذي يُحاصر اليوم في غزّة بلا حليب ولا مهدٍ آمن، تتكرّر الحكاية بوجوهٍ مختلفة.
فرعون القديم أمر بقتل كلّ طفلٍ وُلد ذكرًا لأن نبوءةً قالت له إنّ طفلًا سيهدم عرشه، وفرعون العصر الحديث يُحاصر غزة لأنّ طفلًا واحدًا فيها قد يكبر فيصبح مقاومًا يهدم "هيكل خوفهم".
حين يتحوّل الخوف من الرضيع إلى سياسة دولة
إسرائيل لا تخاف من جيوشٍ جرّارة، بل من فكرةٍ تخرج من رحم غزة.
طفلٌ واحد ينجو من الحصار، يُرضَع من أمٍّ تقاسمت معه آخر قطرة حليب، قد يصبح رمزًا يذكّر العالم بأنّ الجريمة لم تُمحَ بعد.
ولأنّ الفكرة أخطر من الصاروخ، حاصرت إسرائيل الحليب قبل أن تحاصر الأنفاق، وقطعت الأوكسجين قبل أن تفكر في هدنة.
ما يُمنع اليوم عن أطفال غزة ليس الغذاء فقط، بل الحقّ في الوجود.
حين تُغلق المعابر، لا تموت الأجساد فقط، بل تموت ذاكرة الأمل التي كانت تُرضع مع كلّ رضعةٍ من زجاجة الحليب.
 الطفل الذي يخيف الملوك
في سفر الخروج، ارتجف فرعون حين سمع بنبوءةٍ تقول: "يولد في بني إسرائيل غلامٌ يكون هلاك ملكك على يده".
واليوم، ترتجف تل أبيب من ذات الصورة: طفلٌ يُولد في رفح أو الشجاعية، يحمل في عينيه ما لا تراه الأقمار الصناعية… روح العدل.
لهذا تحاصر "إسرائيل" الحليب كما تحاصر الحقيقة.
تخشى من صرخةٍ في مهدٍ أكثر مما تخشى من بيانٍ سياسي، وتهاب دمعة أمٍّ أكثر من ألف دبابة.
 الضمير الغربي: حين يسكت المانحون ويصرخ الأطفال
تُنقل شاحنات السلاح إلى الموانئ الإسرائيلية بسرعة الضوء، بينما يُفحص صندوق حليب الأطفال على الحدود كما لو كان قنبلة.
المفارقة الأخلاقية هنا مرعبة:
العالم الذي يفاخر بحقوق الإنسان يوقّع بيده على وثيقة تجويع الأطفال، ويُبرّر الحصار بعبارات “الأمن” و“محاربة الإرهاب”.
أية حضارة هذه التي تخاف من زجاجة حليب؟
وأيّ قانون دولي يسمح بتجويع رضيع تحت شعار “الردع”؟
 الحصار كأداة استعمارية جديدة
في الفكر الصهيوني، الحصار ليس وسيلة حربٍ مؤقتة، بل عقيدة راسخة:
“أرهق العدو حتى يختنق من الداخل.”
منذ دير ياسين حتى غزة، لم يتغيّر جوهر الفكرة: جعل الفلسطيني يعيش بين خيارين — الجوع أو الهجرة.
لكنهم لم يفهموا بعد أن حليب الأمهات أقوى من محركات الحرب، وأنّ ذاكرة الأم التي فقدت رضيعها ستكتب تاريخًا لا تمحوه طائراتهم.
 أمٌّ تبحث عن زجاجة… وعالمٌ يشيح بوجهه
في مستشفى كمال عدوان أو الشفاء، تروي الممرضات قصصًا لا تُروى في نشرات الأخبار:
أمٌّ تُذيب الماء الساخن على فتات طحين لتخدع جوع ابنها،
وأخرى تُغنّي لطفلها حتى ينام بدل أن يبكي طلبًا للحليب،
وثالثة ماتت وهي تحاول إرضاع صغيرها لأن جسدها جفّ من العطش.
هذه ليست مشاهد حرب، بل مشاهد خزيٍ إنساني.
فالعالم الذي خاف من “دم الطفل يسوع” يومًا، يصمت اليوم على دماء أطفال غزة.
تبدّل المسرح وبقيت الجريمة واحدة: قتل البراءة باسم الخلاص.
 من الخوف من موسى إلى الخوف من محمد الدرة
حين قُتل محمد الدرة في حضن والده عام 2000، كانت إسرائيل تقتل الصورة ذاتها التي تخافها منذ آلاف السنين: صورة الأب والابن.
الابن الذي قد يكبر فيصبح رمزًا، والأب الذي يحمل في حضنه معنى المقاومة الأولى.
ومنذ تلك اللحظة، صار كل طفلٍ في غزة متّهَمًا بأنه “خطر محتمل”.
في نظر الفكر الصهيوني، الطفل الفلسطيني ليس كائنًا بريئًا، بل مشروع مقاومٍ مؤجّل.
لذلك تُمنع عنه الكتب والحليب، لأن الحليب يصنع الجسد، والكتاب يصنع الوعي، وكلاهما أخطر من الرصاص.
لفكر الصهيوني: هندسة الخوف
تقوم العقيدة الصهيونية على فكرة “الخطر الديموغرافي”، أي أن ولادة الفلسطيني هي تهديد استراتيجي.
لذلك تُترجم الحروب إلى معادلات رقمية:
كل طفلٍ يولد في غزة هو قنبلة موقوتة، وكل أمٍّ تنجب أكثر من ثلاثة أطفال هي “خطر على أمن إسرائيل”.
هذا الفكر لا يرى الإنسان، بل الإحصاء.
وفي تلك المعادلة الباردة، يُمحى الحليب من قائمة “الاحتياجات الإنسانية” ليصبح “عنصرًا أمنيًّا”.
إنه منطق الاحتلال حين يتحوّل الخوف إلى عقيدة، والطفل إلى عدوٍّ قبل أن ينطق.
حين ينتصر الطفل دون أن يتكلّم
لكن ماذا بعد؟
تحت الركام يولد أبطال بلا أسماء.
في حضن أمٍّ جائعة تنام طفلةٌ مبتسمة لأنّها لا تعرف أن العالم خذلها.
وفي رائحة الحليب المحترق، يكتب الله معادلةً لا يفهمها الجبابرة:
أنّ الحياة أقوى من الحصار، وأنّ بكاء الطفل قد يهزّ عرش الطغاة أكثر من قنابلهم.
 الفرعون واحد... والأم واحدة
من نهر النيل إلى شاطئ غزة، ظلّ الحاكم هو نفسه وإن تغيّرت الوجوه.
فرعون يخاف من الرضيع لأنه يعلم أن القادم من المهد سيُسقط التاج عن الرأس.
لهذا يُقتَل الأطفال، ولهذا يُمنع الحليب.
لكن كما خرج موسى من الماء ليكسر العرش، سيخرج من تحت الأنقاض طفلٌ جديد يحمل رسالة الأرض والسماء معًا.
إنّ الذين يخافون من الأطفال، في الحقيقة يخافون من المستقبل.
ولأنّ غزة تلد المستقبل كلّ يوم، فستبقى مستهدفة بالحرب… لكنها أيضًا ستبقى واهبة للحياة.

مواضيع قد تعجبك