خبرني - شهدت الساحة الفلسطينية جدلا واسعا وبشكل سريع، بعد أن أبدت حركة حماس موافقتها على خطة الرئيس الأميركي دونالد ترامب الجديدة بشأن غزة، وهي الخطة التي أعادت إلى الواجهة سؤالا جوهريا: "هل يمكن أن تكون الموافقة خطوة نحو إنهاء الكارثة الإنسانية في القطاع، أم فخا سياسيا يجهض مشروع المقاومة ويفتح الباب أمام مرحلة جديدة من التهميش الوطني؟"
من زاوية أولى، يمكن النظر إلى الإيجابيات المحتملة للموافقة على الخطة باعتبارها نافذة أمل أمام الغزيين المنهكين من الحرب والحصار والدمار، فقبول حماس بالخطة، قد يوقف شلال الدم المستمر منذ عامين، ويؤدي إلى وقف إطلاق النار وانسحاب القوات الإسرائيلية من أجزاء من القطاع، ما يتيح فرصة لإعادة الإعمار وعودة الحد الأدنى من الحياة الطبيعية إلى غزة التي دُمرت بنيتها التحتية بشكل شبه كامل، كما أن البنود المتعلقة بتبادل الأسرى تحمل بعدا إنسانيا مهما، إذ يمكن أن تؤدي إلى إطلاق مئات المعتقلين الفلسطينيين في السجون الإسرائيلية، مقابل الإفراج عن الأسرى الإسرائيليين لدى الحركة، وهو ما سيشكل إنجازا سياسيا وإنسانيا ملموسا، إضافة إلى ذلك فإن الانفتاح على الخطة قد يمنح حماس قدرا من الشرعية السياسية في الساحة الدولية، إذ ستقدم كحركة قادرة على الحوار والانخراط في الحلول السياسية، لا مجرد فصيل عسكري.. هذا التحول قد يسهم في تحسين علاقاتها مع بعض الدول الإقليمية والدولية، ويعزز دور الوسطاء مثل قطر ومصر وتركيا في إعادة بناء غزة ورفع جزء من الحصار المفروض عليها منذ أكثر من 17 عاما، كما أن التهدئة المحتملة ستتيح لحماس وقتا لإعادة تنظيم صفوفها وإعادة بناء قوتها الاجتماعية والسياسية بعيدا عن ضغط العمليات العسكرية المستمرة والخسائر البشرية الفادحة.
في المقابل لا يمكن إغفال المخاطر الجسيمة التي قد تترتب على تلك الموافقة، إذ يرى كثير من المراقبين أن الخطة تحمل في طياتها بنودا تهدد جوهر المشروع المقاوم الذي قامت عليه الحركة، فقبول حماس بتسليم أو نزع سلاحها سيكون بمثابة إنهاء فعلي لدورها العسكري الذي شكل أساس وجودها وشرعيتها في الشارع الفلسطيني، كما أن البنود التي تنص على إدارة غزة عبر لجنة أو هيئة مدنية مستقلة ومحايدة تعني عمليا تجريد حماس من سلطتها التنفيذية، وتحويلها إلى فصيل سياسي محدود التأثير، ما قد يضعف حضورها في المشهد الفلسطيني.
الأخطر من ذلك هو أن الخطة تقوم على وعود وضمانات دولية تبدو غامضة، وهي ذات التجارب التي أثبتت فشلها مرارا في اتفاقات سابقة مع إسرائيل، التي ما لبثت أن تنصلت من التزاماتها بعد تحقيق أهدافها الأمنية، وهذا يجعل من أي قبول غير مشروط مغامرة سياسية قد تضع حماس أمام اتهامات بالتفريط بالحقوق الوطنية، وخصوصا من القوى الفلسطينية الأخرى التي ترى في هذه الخطوة تجاوزا لمبد الشراكة الوطنية وتمثيلا أحاديا للقضية الفلسطينية، كما أن الموافقة قد تحدث انقساما داخل الحركة نفسها، بين جناح يرى في التهدئة ضرورة لحماية المدنيين، وآخر يعتبرها استسلاما سياسيا مقنّعا ولا يستبعد أن تستغل هذه الخلافات من أطراف إقليمية ودولية لتفكيك البنية التنظيمية للحركة وإضعاف حضورها الشعبي، وإضافة إلى ذلك فإن الرأي العام الفلسطيني، الذي تحمل عبء الحرب لسنوات طويلة، قد ينقسم بدوره بين من يبحث عن نهاية للحصار والمعاناة، ومن يتمسك بخيار المقاومة باعتباره الطريق الوحيد لاستعادة الحقوق المسلوبة.
في المحصلة.. تبدو موافقة حماس على خطة ترامب الجديدة سيفا ذا حدين؛ فهي من جهة قد تنقذ غزة من كارثة إنسانية غير مسبوقة وتفتح الباب أمام إعادة الإعمار ووقف الحرب، لكنها من جهة أخرى قد تحمل في باطنها تنازلات تمس جوهر مشروع المقاومة ومكانة الحركة في الداخل والخارج.
الواقعية السياسية تفرض على حماس أن توازن بين الحفاظ على الثوابت الوطنية ودرء المأساة الإنسانية، وأن تتعامل مع أي خطة بروح براغماتية لا تفريط فيها ولا مغالاة، بحيث تكون التهدئة وسيلة لا غاية، والقبول مشروطا بضمانات حقيقية تحمي الحقوق الفلسطينية وتمنع إسرائيل من الالتفاف على الاتفاق.
بين حسابات البقاء السياسي ومقتضيات الصمود الوطني، تبقى معادلة حماس صعبة ومعقدة، لكن التاريخ علم الفلسطينيين أن التنازل غير المشروط قد يوقف حربا، لكنه لا يصنع سلاما.




