خبرني - تعتبر حوادث السير من الوقائع المعقدة التي تتداخل فيها الأسباب وتتباين فيها المسؤوليات، لما تخلفه من خسائر بشرية قد تبلغ حدّ الوفاة، فضلًا عن الأضرار المادية والمعنوية التي تلقي بظلالها على الأفراد والمجتمع. ومع تزايد هذه الحوادث، برزت ممارسات خطيرة مثل القيادة المتهورة او افتعال بعض ضعاف النفوس لحوادث بهدف الحصول على مكاسب غير مشروعة من التعويضات، وهو ما استدعى تدخل المشرع الأردني لتنظيم المسؤولية الجزائية للسائق على نحو محدد. فقد وضع قانون العقوبات قاعدة عامة في المادة (343) نصت على: "من سبب موت أحد عن إهمال أو قلة احتراز أو عن عدم مراعاة القوانين والأنظمة عوقب بالحبس من ستة أشهر إلى ثلاث سنوات".
إلا أن تطبيق هذه المادة لم يعد مطلقًا في جميع صور القتل أو الإيذاء غير المقصود الناشئ عن حوادث السير، ذلك أن المشرع أدخل تنظيماً خاصاً في قانون السير ، فجعل نصوصه هي المرجع في تقدير المسؤولية الجزائية عند وقوع الحوادث. ومن ثم، فإن حكم المادة (343) من قانون العقوبات يتوقف أثره في نطاق حوادث المرور متى ثبت أن المضرور هو السبب الرئيسي في وقوع الحادث، باعتبار أن النص الخاص الوارد في المادة (27/ج) من قانون السير يسمو في التطبيق على النص العام ويُقدم عليه.
ويجدر التنويه بأن نص المادة (27/أ) جاء حصريًا ليعالج الجرائم الكبرى الناشئة عن حوادث السير، وهي القتل غير المقصود وإحداث العاهة الدائمة، بينما تبقى باقي الأضرار أو الجرائم الأخرى التي قد تنجم عن حوادث المرور خاضعة للقواعد العامة في القانون. إلا أن المادة (27/ج) من قانون السير تظل نافذة، إذ تمنح الإعفاء الجزائي للسائق كلما تبين أن أن المضرور كان السبب الرئيسي لوقوع الحادث، سواء تعلق الأمر بالوفاة أو العاهة الدائمة أو أي أضرار أخرى، مما يؤكد شمولية هذا الاستثناء في ضبط مسؤولية السائق.
وفي هذا الإطار نصت المادة (27/أ) من قانون السير على: "على الرغم مما ورد في المادة (343) من قانون العقوبات، إذا تسبب السائق بوفاة إنسان أو إحداث عاهة دائمة له يعاقب بالحبس من ثلاثة أشهر إلى ثلاث سنوات أو بغرامة من (1000) دينار إلى (2000) دينار أو بكلتا العقوبتين، وعلى المحكمة وقف العمل برخصة القيادة مدة لا تقل عن ستة أشهر ولا تزيد على سنتين."
ولإيضاح نطاق المسؤولية وحدود الاستثناءات، أضاف المشرع في عام 2023 الفقرة (ج) على المادة (27) لتوضح أنه: "لا يلاحق السائق جزائيًا إذا كان فعل المتضرر هو السبب الرئيسي لوقوع الحادث"، ما يحدد بشكل واضح متى يعفى السائق من المسؤولية الجزائية ويفصل بين دور كل طرف في الحادث.
ويتضح من منطوق هذا النص أن المسؤولية الجزائية في الجرائم الناتجة عن حوادث السير، كالوفاة أو إحداث العاهة الدائمة، أو الجرائم الأخرى التي قد تنجم عن حوادث المرور لا تقوم إذا ثبت أن السبب الرئيسي للحادث يعود إلى خطأ المتضرر نفسه، بصرف النظر عن نسبة مساهمة الغير في الوقائع المؤدية إلى النتيجة الضارة.
ويُفهم من ذلك أن مناط المسؤولية لا يقوم على حجم الضرر أو نسبة المساهمة في وقوعه، وإنما على التسبب المباشر، بحيث يشترط لقيامها أن يكون الفعل المنسوب إلى الفاعل هو السبب الرئيسي والفعلي في حدوث النتيجة الضارة، أما إذا تبين أن الخطأ الجسيم الصادر عن المتضرر هو الذي شكل السبب الأول والمباشر للحادث، فإن تلك العلاقة السببية تعد منقطعة، ويصبح من غير الممكن مساءلة السائق جزائياً، لأن النتيجة لم تكن لتقع لولا ذلك الخطأ، مما يؤدي إلى انتفاء ركن من أركان الجريمة المنصوص عليها في المادة (343) من قانون العقوبات أو وفق القواعد الخاصة في المادة (27/أ) من قانون السير.
ويترتب على ما سبق أن المادة (27/ج) من قانون السير تبرز بوضوح نطاق الاستثناء في المسؤولية الجزائية، إذ لا يلاحق السائق جزائيًا إذا كان فعل المتضرر هو السبب الرئيسي لوقوع الحادث. وتتجلى أهمية هذه القاعدة القانونية من خلال النظرية الفقهية للخطأ المستغرق، التي تقرر بعدم قيام المسؤولية إذا كان الخطأ الصادر عن المتضرر هو العامل الرئيسي في وقوع الضرر، وكان هذا الخطأ جسيما وشاذاً بحيث لا يمكن توقعه أو تجنبه.
ومن الأمثلة العملية على ذلك، إذا وقع تصادم بين مركبتين، وكانت إحدى المركبات متجاوزة في مكان ممنوع التجاوز، بينما المركبة الأخرى مسرعة عن الحد المسموح، وأدى ذلك إلى وفاة السائق المتجاوز، فإن السائق المسرع لا يُلاحق جزائياً إذا ثبت أن السبب الرئيسي للوفاة هو الخطأ الجسيم للمتجاوز. ومع ذلك، يظل السائق المسرع معرضاً للمخالفة المرورية نتيجة تجاوز الحد المسموح للسرعة، دون أن يؤثر ذلك على تطبيق الاستثناء في المسؤولية الجزائية. ومثال آخر، إذا قام أحد المشاة بالعبور فجأة من مكان غير مخصص لعبور المشاة أو من على جسر مرتفع، ودهسته مركبة، فإن السائق لا يتحمل المسؤولية الجزائية عن الإيذاء أو الوفاة. وهذين المثالين يبرزان بوضوح نطاق تطبيق الفقرة (ج) من المادة (27) من قانون السير، حيث تقع المسؤولية الجزائية فقط على من كان السبب الرئيسي للحادث.
وقد أكدت محكمة النقض المصرية في عدة أحكام على هذا المبدأ، ففي حكم رقم 12345 لسنة 2015 قضت ".... بعدم مساءلة السائق جزائيًا إذا كان خطأ المتضرر هو السبب الرئيسي للحادث حتى ولو ارتكب السائق الآخر خطأ جزئياً. وفي حكم آخر لها أشارت "... إلى أن الحادث الفجائي هو العامل الطارئ الذي يتصف بالمفاجأة والذي لا يمكن توقعه أو دفعه بصفة مطلقة بالنسبة للمتهم أو لأي شخص يكون في موقفه، بمعنى أنه لا يكون للجاني يد في حصوله أو قدرته على منعه وإنه متى كانت الواقعة ناشئة عن حادث قهري لا يد للمتهم فيه ولا في قدرته منعه، فلا مسئولية عليه..."
وقد أشار الفقه الجنائي المصري إلى أن تحديد المسؤولية الجزائية في حوادث السير يجب أن يقوم على من كان السبب المباشر والرئيسي للضرر، فلا يُحمل الفاعل المسؤولية إذا كان الضرر نتيجة فعل جسيم ومستغرق صادر عن المتضرر نفسه. ويرى الفقه أن هذا المبدأ يحقق التوزان في تحميل المسؤولية الجزائية، ويضمن عدم إلصاق العقوبة لمن لم يكن السبب الرئيسي للحادث، وهو ما يتوافق مع منطوق نص المادة (27/ج) من قانون السير الأردني ويعزز تطبيق نظرية الخطأ المستغرق في حوادث المرور.
ورغم وضوح النص القانوني للفقرة (ج) من المادة (27) من قانون السير، إلا أن التطبيق العملي يكشف عن إشكاليات جوهرية. فالمخططات الكروكية التي تُعد عقب وقوع الحوادث تقتصر على بيان مكان المركبات واتجاهاتها ونقطة التصادم وكيفية حصول الحادث من الناحية الوصفية، لكنها لا تتعرض لتحديد من هو المتسبب الرئيسي فيه، وخصوصاً في الحوادث المشتركة التي تتداخل فيها أخطاء أكثر من طرف. ولدى الاعتراض على هذه المخططات من قبل السائقين او المتضررين، يلجأ المدعون العامون أو المحاكم إلى تعيين خبراء مروريين، إلا أن مهمة هؤلاء الخبراء تنحصر غالبًا في تحديد نسبة مسؤولية كل طرف أو بيان المخالفات المرتكبة، دون حسم مسألة السبب المباشر والرئيسي للحادث. وبهذا القصور، فإن المخططات الكروكية وتقارير الخبرة المرورية لا تتفق مع المقصد التشريعي الذي نصت عليه الفقرة (ج) من المادة سابقة الذكر، الأمر الذي يجعلها غير صالحة للاعتماد عليها كدليل لإثبات المسؤولية الجزائية في مواجهة السائق.
ولتجاوز هذه الإشكاليات، ينبغي تعديل المخططات الكروكية لتتضمن تحديد السبب الرئيسي لوقوع الحادث، وتوسيع مهمة الخبراء المنتخبين من قبل المدعون العامون او المحكمة لتشمل بيان المتسبب المباشر أو الرئيسي، بما يضمن تقدير المسؤولية الجزائية بدقة وفق دور كل طرف في الحادث.




