*
الثلاثاء: 23 ديسمبر 2025
  • 20 أغسطس 2025
  • 14:40
نحو عدالة في الخدمات المكانية في المدن عمّان نموذجاً 2
الكاتب: الدكتور زيد أحمد المحيسن

خبرني - تعدّ العدالة المكانية أحد الأسس المحورية في بناء مدن متوازنة ومستدامة، وهي لا تقتصر فقط على التوزيع الجغرافي المتكافئ للخدمات، بل تشمل كذلك المساواة في النوعية والكفاءة والمتابعة بين مختلف مناطق المدينة. وفي هذا الإطار، تمثل مدينة عمّان نموذجًا واضحًا للتحديات المرتبطة بتحقيق هذه العدالة، إذ تتجلى الفوارق بشكل جلي بين مركز المدينة وأطرافها، وبين الأحياء الحديثة والمناطق الأقل حظًا، سواء من حيث الخدمات أو البنية التحتية أو التنظيم الحضري.

رغم الخطط المعلنة لأمانة عمّان الكبرى، وتوافر بعض الأدوات التقنية مثل نظم المعلومات الجغرافية ومبادرات التحول الرقمي، إلا أن الواقع الميداني يشير إلى فجوة واضحة في التنفيذ والمتابعة. إذ تعاني مناطق عديدة من إهمال لافت في الجوانب الخدمية، يظهر ذلك في تدهور الأرصفة، وغياب الصيانة الدورية لأشجار الشوارع، وانتشار الاعتداءات على الأرصفة من قبل الأفراد والمحال التجارية، مما يعيق حركة المشاة ويهدد سلامتهم. كما أن النظافة العامة تعاني من تراجع ملحوظ، حيث توجد حاويات نفايات في حالة يرثى لها في عدد من الأحياء، والساحات المجاورة للشوارع تفتقر للتنظيف الدوري، مما ينعكس سلبًا على الصحة العامة والمشهد الحضري.

ومن المظاهر اللافتة للقصور الإداري، غياب الشواخص المرورية داخل الأحياء، وكأنها ليست جزءًا من المدينة، في حين يتركز الاهتمام بالشوارع الرئيسية فقط. كما أن تنظيم المرور داخل الأحياء يشوبه الكثير من العشوائية، حيث تغيب خطوط المسارب والتخطيط الأرضي، ويُسمح بوقوف المركبات عند نواصي الشوارع والتقاطعات، مما يحجب الرؤية ويشكّل خطرًا كبيرًا على السلامة المرورية، خاصة عند مداخل الشوارع الصاعدة. والأدهى من ذلك أن قسم هندسة المرور في بعض البلديات يركّز فقط على الشوارع الكبرى، متجاهلًا تنظيم الأحياء، وكأنها مناطق خارج إطار التخطيط الحضري.

ولم يسلم نظام التسمية والترقيم من الفوضى، إذ تعاني مناطق الإسكان الخاصة من ازدواجية واضحة بين الرقم المعتمد من أمانة عمّان والرقم الذي يضعه صاحب المشروع العقاري، والذي غالبًا ما يضع اسمه ورقم المشروع على الواجهة بعد البيع، دون أن تتم إزالته، مما يربك السكان والزوار ويشوّه واجهات الأبنية، فضلاً عن كونه إعلانًا تجاريًا غير مصرح به، يتم تحت نظر الأمانة التي لا تحرّك ساكنًا. ومن الواجب أن تُلزم البلدية أصحاب هذه المشاريع بإزالة أي لافتات أو شعارات بمجرد تسليم المبنى للسكان، حفاظًا على دقة الترقيم والانضباط البصري للمدينة.

ولا يمكن في هذا السياق تجاهل ظاهرة قطع الأراضي الفارغة وغير المسيّجة التي تقع على شوارع رئيسية، والتي تتحول إلى مكبات نفايات أو بؤر تجمع لمياه الأمطار، مما يؤدي إلى إغلاق المناهل وخلخلة البنية التحتية. كما أن سيارات بيع الخضار والفواكه تجتاح الشوارع والأزقة في كثير من المناطق دون تنظيم، وتربك حركة السير وتشوه المشهد العام، في ظل غياب رقابة فعّالة من الأجهزة البلدية. كل ذلك يضاف إلى حالة "السبات الإداري" التي يبدو أن بعض رؤساء الأقسام الفنية يعيشونها، حيث تغيب المتابعة اليومية، وتضعف الرقابة، وتتراكم الملاحظات دون معالجة، وكأن بعض المناطق تعيش خارج نطاق الخدمة.

ورغم هذه الملاحظات، لا يمكن إنكار بعض التحركات الإيجابية التي قامت بها أمانة عمّان الكبرى، سواء من حيث توسعة شبكة الحدائق والمتنزهات، أو إطلاق بعض المبادرات الرقمية، أو توسيع دائرة الخدمات الإلكترونية. كما أن قرار الحكومة في عام 2025 بحل المجالس البلدية وتعيين لجان مؤقتة يشير إلى وجود رغبة في مراجعة الأداء وإعادة هيكلة الإدارة المحلية. لكن هذه الخطوات تبقى محدودة الأثر ما لم يُعالج الخلل التنفيذي ميدانيًا، وما لم يُعطَ المواطن دورًا حقيقيًا في التقييم والمساءلة، ضمن نموذج حكم محلي أكثر شفافية وفعالية.

إن العدالة المكانية ليست شعارًا تنظيريًا، بل هي ممارسة يومية تتحقق على الأرض من خلال الإنارة والنظافة والتخطيط المروري والساحات العامة والبنية التحتية، ويشعر بها المواطن في كل شارع وحيّ. وإذا كانت مدينة عمّان تسعى لتكون عصرية ومستدامة، فعليها أن تنطلق من جوهر العدالة في توزيع الخدمة، وتضع الأحياء الطرفية والمهملة على رأس أولوياتها، لا أن تبقى حبيسة المنطق المركزي الذي لا يرى من المدينة سوى قلبها.

مواضيع قد تعجبك