خبرني - في زوايا الأزقة العتيقة، حيث تنبعث رائحة الخبز الطازج ممزوجة بأهازيج الجدات، وحيث تتكئ الحكايات الشعبية على جدران الطين الموشومة بتاريخ الأجداد... هناك تكمن كنوز لا تقدّر بثمن، كنوز اسمها الثقافة الشعبية.
لم تعد السياحة في عصرنا الحديث مقتصرة على التقاط الصور أمام الآثار الحجرية أو التنقل بين المتاحف الصامتة. لقد تبدّل ذوق السائح، وتبدّلت رؤيته؛ فأصبح يبحث عن تجربة حيّة، عن نبض المكان، عن الروح التي تسكن تفاصيله الصغيرة... عن ثقافته.
إن الثقافة الشعبية ليست مجرّد مظاهر فولكلورية أو عادات من الماضي، بل هي مرآة الوجدان الجمعي، وتعبير عن عمق الحياة اليومية لأفراد المجتمع. في الأغنية الشعبية، في اللباس التقليدي، في الأكلة الدافئة المطهية على نار الحطب، في الرقصات الجماعية التي تنبع من القلب، وفي القصص المتناقلة على ألسنة الشيوخ... نكتشف هوية الوطن، ونلمس روحه.
عندما تُدمج هذه الثقافة في برامج السياحة، فإننا لا نقدّم للسائح مجرد منتج، بل نمنحه فرصة للانصهار في التجربة، أن يكون جزءاً من المشهد، لا مجرد متفرّج عليه.
ليس الأمر بحاجة إلى مبانٍ ضخمة أو استثمارات خيالية، بل إلى رؤية. رؤية تؤمن بأن الأسواق التقليدية يمكن أن تكون معارض فنية حيّة، وأن البيوت الطينية قد تتحوّل إلى بيوت ضيافة ساحرة، وأن فساتين الأعراس القديمة يمكن أن تصبح عروض أزياء تراثية تجذب الأنظار.
إن إقامة مهرجانات فلكلورية في قلب القرى، وتنظيم ورشات حِرَفية للسياح، وتقديم وجبات محلية عبر تجارب الطهي المباشر، ليست مجرد فعاليات، بل هي جسور حقيقية تصل بين ثقافتنا والآخر.
حين يجد الشاب الحرفي فرصة لعرض صناعته اليدوية أمام الزوار، وحين ترى المرأة الريفية أن وصفة جدتها صارت تجذب زوّارًا من أقاصي الأرض، فإننا لا نُنعش الاقتصاد فحسب، بل نُنعش الأمل والكرامة.
السياحة الثقافية القائمة على التراث الشعبي ليست بديلاً عن السياحة الكلاسيكية، بل هي رافدٌ مكمّل، يمنح التجربة طعماً وعمقاً وصدقاً. كما أنها تحافظ على هذا التراث من الاندثار، عبر تحويله إلى قيمة معيشة.
إن إدماج الثقافة الشعبية في برامج السياحة ليس ترفاً ولا خياراً جانبياً، بل هو رهان على الذات، على ما نملك من جمال أصيل وكنوز حيّة. هي دعوة لكل من يؤمن بأن المستقبل لا يُبنى فقط بالإسمنت والحديد، بل أيضاً بـ"الذاكرة" الحية، وبذلك الدفء الإنساني الذي لا تصنعه التكنولوجيا، بل تصنعه الروح الشعبية حين تُقدَّم للعالم كما هي: نقيّة، صادقة، آسرة.




