*
الخميس: 18 ديسمبر 2025
  • 03 أغسطس 2025
  • 13:41
الواجب أولًا في زمنٍ يحترق فيه كل شيء
الكاتب: الدكتور زيد أحمد المحيسن

خبرني - في أسطورة قديمة، اندلع حريق هائل في الغابة، ففرّت الحيوانات مذعورة، تبحث عن النجاة. وحده عصفور صغير ظلّ يحلّق فوق ألسنة اللهب، ينقل بمنقاره قطرات ماء شحيحة، يلقيها على النار. رآه أحد الحيوانات وسأله ساخرًا:
"أبهذه القطرات تُطفئ حريقًا؟"
فأجابه العصفور، بثبات لا يشبه حجمه:
"أنا أقوم بواجبي."
ليست هذه القصة خيالًا بريئًا يُروى للأطفال قبل النوم، بل هي إسقاط عميق على واقع مأزوم تعيشه شعوب، وتُختبر فيه الدول والمجتمعات. ففي زمن الأزمات، تتعرّى الخطابات وتتساقط الأقنعة، ولا يبقى إلا من آمن أن الواجب ليس عبئًا، بل شرف ومسؤولية.
في بلادنا، وفي محيطنا العربي، نمرّ بمخاضات قاسية تُعيد تعريف كل المفاهيم: الوطن، المواطنة، الالتزام، والسيادة. لم تعد الوطنية كلامًا يُلقى على المنابر، بل تحوّلت إلى محكّ حقيقي: هل سنكون العصفور الصغير الذي يفعل ما بوسعه؟ أم الحيوان الذي يكتفي بالمشاهدة والتقليل من شأن كل محاولة؟
السياسة لم تعد رفاهًا فكريًا، بل أداة صراع من أجل البقاء. من لا يشارك في ترميم وطنه الآن، سيجد نفسه غدًا في رماد وطن لم يسعَ إلى إنقاذه. والواجب – الذي هو جوهر العلاقة بين الفرد والدولة – لم يعد ترفًا يُمارس متى شاء المواطن، بل ضرورة أخلاقية وقانونية. كما قال فيكتور هوغو: "الواجب قانون لا يقبل المخالفة."
ما أحوجنا اليوم إلى أن نُعيد تعريف الواجب، لا كعمل فوقي تمليه السلطة، بل كقيمة داخلية تُحرّك الفرد ليكون جزءًا من حلّ لا من تعقيد، من بناء لا من هدم. فليس مطلوبًا من الجميع أن يكونوا في الصفوف الأمامية، لكن أقلّ الإيمان أن نؤدي أدوارنا، كلٌ من موقعه، دون تهرّب، دون تسخيف، ودون أن نغلف العجز بالمنطق.
الخطورة اليوم ليست في وجود الحريق فقط، بل في قلّة العصافير، وكثرة المتفرجين، وانشغال البعض بتسجيل نقاط على الدولة بدلًا من إنقاذ السفينة التي تُقلّ الجميع.
إن المسؤولية لا تتجزأ. ومَن يطالب بحقوقه دون أن يؤدي واجباته، ينسف العقد الأخلاقي الذي تقوم عليه الدولة. ومَن ينتظر تحسن الظروف ليبدأ العطاء، سيكتشف أن الزمن لن ينتظره، وأن التاريخ لا يرحم المترددين.
لقد اعتدنا أن يكون الوطن مظلّتنا وقت العوز والريح، أفلا يكون من الوفاء أن نحميه حين تشتد العواصف؟
أم أن المواطنة انتهت صلاحيتها بانتهاء المصلحة؟
الوطن الآن لا يحتاج شعارات جديدة، بل رجالًا ونساءً يؤمنون أن القيام بالواجب هو معيار الوفاء والانتماء وقت الشدائد.
فمن لم يكن قطرة في الإطفاء، كان جزءًا من الحريق.

مواضيع قد تعجبك