خبرني - تستعد محكمة العدل الدولية، أعلى هيئة قضائية في منظومة الأمم المتحدة، لإصدار رأي استشاري مهم يتعلق بالتزامات الدول في مواجهة أزمة التغير المناخي. هذا الرأي الذي ينتظره العالم لا يُعد ملزمًا قانونيًا، لكنه قد يمثل نقطة تحول تاريخية في كيفية تطبيق قواعد القانون الدولي على واحدة من أخطر التحديات التي تواجه البشرية اليوم. القصة بدأت منذ أكثر من خمس سنوات، عندما بادرت مجموعة من الدول الجزرية، المتضررة بشدة من ارتفاع منسوب البحار، إلى الدفع نحو مسار قانوني يعترف بمسؤولية الدول الكبرى في أزمة المناخ. بقي الطريق صعبًا ومعقدًا حتى تدخلت دولة فانواتو الصغيرة في المحيط الهادئ، حيث قاد طلاب جامعيون حملة عالمية للمطالبة برأي استشاري من محكمة العدل الدولية. بدعم من أكثر من 130 دولة، تبنت الجمعية العامة للأمم المتحدة في آذار 2023 قرارًا بالإجماع لبدء مرحلة جديدة من دمج العدالة المناخية ضمن إطار القانون الدولي.
الرأي الذي ستصدره المحكمة (العدل الدولية) غدا سيركز على سؤالين رئيسيين يتعلقان بمسؤوليات الدول بموجب القانون الدولي، بما في ذلك حقوق الإنسان، تجاه حماية المناخ، وكذلك العواقب القانونية المترتبة على عدم الوفاء بهذه المسؤوليات على الدول الأخرى والشعوب المتضررة والأجيال القادمة. رغم أن المحكمة لا تصدر أحكامًا ملزمة في إطار الآراء الاستشارية، إلا أن رأيها يُستخدم كمرجعية قانونية يمكن أن تؤسس لمسارات تقاضي جديدة أمام المحاكم الوطنية والدولية، كما يعزز من آليات المساءلة السياسية والضغط الدولي على الدول الملوثة، ويعمل على تحصين الحقوق البيئية وربطها مباشرة بالالتزامات المناخية.
على مدار عام 2024، تلقت المحكمة مداخلات مكتوبة من 91 دولة ومنظمة دولية، ثم عقدت جلسات استماع شفوية في كانون الأول شهدت مشاركة واسعة من دول متقدمة ونامية، بالإضافة إلى منظمات حقوقية وبيئية. تنوعت المواقف الدولية بين دول نامية طالبت بتفسير شامل يربط بين الالتزامات المناخية وحقوق الإنسان ويوسع نطاق مسؤولية الدول، ودول صناعية كبرى حذرت من محاولات لتسييس المحكمة أو تقليص مرونة اتفاق باريس، ودول متوسطة دعت إلى تفسير معتدل يحترم المبادئ القانونية القائمة مع ضرورة تطويرها.
أما الموقف العربي فقد شهد مساهمات مختلفة من عدة دول عبر مداخلات مكتوبة وشهادات شفوية. فقد ركزت مصر على العلاقة بين تغير المناخ وحقوق الإنسان والتزامات الدول التاريخية، في حين شددت الإمارات والكويت والسعودية على أهمية احترام مبدأ المسؤوليات المشتركة ولكن المتباينة واعتبار اتفاق باريس الإطار المناسب لتفعيل الالتزامات. وبرزت مشاركة السعودية الرسمية بمداخلة مكتوبة وشهادة شفوية خلال جلسات كانون اول، حيث أكدت على ضرورة حصر الالتزامات القانونية في إطار الاتفاقيات الدولية الحالية ورفض توسيع نطاق المسؤوليات القانونية خارجها، مع تمسكها بمبدأ المسؤوليات المشتركة ولكن المتباينة، أما فلسطين فقدمت مرافعة أخلاقية بارزة ربطت تغير المناخ بقضايا الاستعمار ونزع الأراضي كما اختارت تناول الانبعاثات والعمليات العسكرية في الحرب والسلم كما وتناولت تحديدًا انبعاثات النزاعات، مع التركيز على الحرب الدائرة في غزة كمثال. وطلبت فلسطين من المحكمة تحديدًا تقديم توجيهات محددة في الرأي الاستشاري بشأن مسؤولية الدولة عن انبعاثات غازات الدفيئة الناتجة عن "النزاعات المسلحة، والأنشطة العسكرية الأخرى، بما في ذلك الاحتلال". و على الجانب الآخر، لم تسجل جامعة الدول العربية مداخلة رسمية باسمها، رغم الدعم المعبر عنه من بعض الدول العربية خلال التصويت في الجمعية العامة.
على الرغم من أهمية مشاركة عدد من الدول العربية، يلاحظ غياب موقف عربي موحد أمام محكمة العدل الدولية، وهو أمر يمكن تفسيره ضمن سياقات مختلفة منها تفاوت القدرات القانونية، وحساسية المواقف الدبلوماسية، وأولوية التزامات المناخ ضمن أجندات كل دولة. ومع ذلك، تفتح هذه الاستشارة القانونية نافذة جديدة أمام البلدان العربية لإعادة النظر في أدوارها ضمن مسارات العدالة المناخية، ليس كمجرد متلقين لتداعيات الأزمة، بل كشركاء فاعلين في صياغة الإطار القانوني الدولي المناخي. يبقى الدور العربي مهما وحيوياً، من خلال تقوية المواقف القانونية الوطنية وتعزيز أدوات العدالة البيئية على المستويين المحلي والدولي.
الرأي الاستشاري المرتقب يحمل معه تداعيات واسعة قد تؤثر على العديد من المستويات القانونية والسياسية والحقوقية. فعلى المستوى القانوني، سيشكل إطارًا مرجعيًا مهمًا لتعزيز المساءلة الدولية، إذ يمكن أن يسهل تحريك دعاوى ضد الدول أو الشركات الملوثة، مما يضغط أكثر على الجهات المسؤولة لمواجهة تبعات أفعالها. كما سيدعم الرأي تعزيز حقوق الإنسان البيئية وربطها مباشرة بالتغير المناخي، وهو ما يفتح المجال أمام تعميق المطالب القانونية والسياسية للبلدان والمجتمعات المتضررة، خاصة في دول الجنوب والبلدان الصغيرة المهددة.
أما من الناحية السياسية، فإن الدول الصناعية الكبرى التي طالما اعتبرت التزاماتها محصورة في الاتفاقيات المناخية مثل اتفاق باريس، ستواجه ضغوطًا متزايدة للالتزام بمسؤوليات أوسع، بما يشمل إصلاح الأضرار وتعويض المتضررين والتوقف عن دعم مصادر الطاقة الأحفورية. كما يمكن أن يدفع الرأي المفاوضات الدولية، لا سيما في مؤتمر الأطراف المقبل، نحو تعزيز دعم الدول النامية مالياً لتحقيق التكيف ومعالجة الخسائر والأضرار، بالإضافة إلى تسريع الانتقال العادل للطاقة.
وعلى صعيد الشركات الكبرى، من المتوقع أن يشير الرأي إلى مسؤولية هذه الجهات، خصوصًا في قطاع الوقود الأحفوري، مما قد يطرح تحديات قانونية جديدة تتعلق بالمسؤولية المدنية والتجارية تجاه الأزمة المناخية. كذلك، سيساهم الرأي في دفع الدول إلى تحديث سياساتها الوطنية، من خلال توفير إرشادات قانونية واضحة تلزمها بوضع قوانين أكثر صرامة لحماية المناخ وتعزيز تنفيذ التعهدات الدولية.
ولا يقل أهمية أن الرأي قد يسهم في إعادة تشكيل القانون الدولي البيئي، من خلال ترسيخ مبدأ المسؤوليات المشتركة، ولكن المتباينة وربط الالتزامات المناخية بحقوق الإنسان، ما يعيد رسم قواعد الحوكمة المناخية العالمية ويزيد من عدالتها.
الحركة المناخية العالمية ونحن في المنطقة العربية ننظر إلى هذا الرأي كاختبار تاريخي للمجتمع الدولي، حيث يمثل محاولة لترسيخ عدالة مناخية تتجاوز المصالح السياسية، وتعطي صوتًا للمجتمعات الأكثر هشاشة. ومن المتوقع أن يعزز الرأي دور المجتمع المدني والمحاكم في مراقبة مدى التزام الدول بتعهداتها، خصوصًا خلال مؤتمر COP30 في البرازيل في منتصف شهر تشرين ثاني القادم.
أخيرا، يعتمد مدى تأثير هذا الرأي على كيفية استغلاله من الدول، والمنظمات، والمجتمع المدني والمحاكم. فبالرغم من أنه لن يجبر أي دولة على تقليل انبعاثاتها بشكل مباشر، إلا أنه سيوفر أساسًا قانونيًا قويًا للمساءلة، ويعزز الاعتراف بحقوق المتضررين من الكوارث المناخية، ويفتح الباب أمام نقاشات أوسع حول جدوى وكفاية اتفاق باريس كأداة قانونية.
فغدًا لا تصدر المحكمة مجرد رأي قانوني، بل تعيد طرح سؤالًا جوهريًا على العالم: هل التغير المناخي قضية تقنية بحتة، أم أنها مسألة عدالة وحقوق ومسؤولية؟ مهما كان القرار، فإن هذه اللحظة تذكير صارخ بأن القواعد الدولية بحاجة إلى التكيف مع واقع يتطلب احترام كرامة الإنسان، وحماية البيئة، والحق في الحياة.
* مختصة في سياسات المناخ و المناصرة.




