خبرني - في عالمٍ باتت تُسوّق فيه الأزمات كما تُسوّق العطور، تُروّج فيه كلمات مثل “الإنعاش المالي”، و”التقويم الاقتصادي”، و”إعادة الهيكلة” كأنها وصفات شفاء، تأتي رواية القروض المستحقة للكاتب بيتروس ماركاريس كمكاشفة مؤلمة ومُلهمة. رواية تفضح المنطق الذي تُحاك فيه الكارثة بلغة احترافية، وتُجمّل فيه المأساة بأدوات تسويق متقنة تُلبس الفقر ثوب “النجاة”.
ماركاريس لا يقدم سردًا بوليسيًا بقدر ما يقدم محاكمة للقيم، وخصوصًا حين تتحول أدوات الإعلام والإعلان من منصات للتنوير إلى أذرع ترويج للخذلان. في الرواية، الجريمة لا تقع خلف الأبواب المغلقة، بل في النشرات الرسمية، وفي المؤتمرات الصحفية، وفي عبارات الإقناع المدروسة التي تُصاغ بعناية لتجعل المواطن يبتلع ما لا يمكن ابتلاعه: أن عليه أن يتحمّل، أن يدفع، أن يضحي، في حين لا يُطلب من غيره سوى أن يُقنعه بذلك.
هنا تمامًا تتجلّى مهارة التسويق كقوة غير محايدة. إنها لا تصف الواقع، بل تصنعه. تبيع للناس سياسات التقشف على أنها انضباط، وتقدّم تقليص الرواتب كجزء من “خارطة الإنقاذ”، وتعرض التضحية الجماعية كعلامة نضج ووعي وطني. وبينما يُدفع الناس إلى زوايا العوز، يُطلب منهم أن يبتسموا للكاميرا وأن يصدقوا أنهم شركاء في الحل.
في شخصية خاريتوس، يلاحق المفتش القاتل، لكنه يدرك أن القاتل الحقيقي لا يترك بصمات على الجسد، بل على الخطاب العام. لا يفرّ هاربًا، بل يتجوّل في العلن، باسم مؤسسة مالية، أو وكالة تنمية، أو حتى صندوق إصلاح. والرواية لا تكتفي بعرض هذا، بل تُشهِر بالآلية التي يُدار بها العقل الجمعي: عبر لغة تخديرية، تسويقية، تخاطب الحلم بينما تصادر الواقع.
المنظومة في الرواية – تمامًا كما في عالمنا – لا تفرض سياساتها بالقوة، بل تُسوّقها بالمنطق. تجعل من التقشّف فضيلة، ومن الصبر بطولة، ومن الفقر مؤقتًا رغم أنه دائم. تُزيّن القرارات القاسية بألوان براقة، وتُلقي باللائمة دومًا على الفرد، لا على البنية. ومن يرفض هذا المنطق يُتهم بأنه لا يفهم، أو ليس واقعيًا، أو أنه “يُسيء لصورة البلاد”.
وهنا يصبح التسويق، في بعده الأخلاقي، سلاحًا حقيقيًا. ليس لأنه يُقنع، بل لأنه يُفرغ الناس من قدرتهم على الرفض. يحوّل الضحية إلى شريك في تبرير الجريمة. يجعل من القهر شيئًا يمكن قبوله طالما تم تغليفه بلغة راقية. فبدلًا من أن تُقال الحقيقة كما هي: “نحن نفقر شعوبًا كاملة”، يُقال: “نحن نعيد ترتيب الأولويات”.
ماركاريس، بحدة إنسانية نادرة، يفكك كل هذا. يعيد للإنسان وعيه المسلوب، ويضعنا أمام السؤال الحقيقي الذي يهرب منه كل خطاب تسويقي: من المستفيد؟ ومن يدفع الثمن؟ وهل يملك الفقير حرية القرار حين لا يملك حتى القدرة على الفهم وسط هذا الضجيج المدجّن بلغة براقة؟
القروض المستحقة هي رواية عن مسؤولية الضمير في عصر تُغلف فيه الكارثة بورق تسويقي أنيق. إنها كتاب يقظة، لا يدعو إلى الحزن، بل إلى الانتباه. لا يهاجم فقط السياسات، بل يعرّي اللغة التي تجعلها قابلة للهضم. إنها تذكير بأن التسويق، حين يُستخدم لتخدير الشعوب، لا يختلف عن أي أداة قمع أخرى… سوى أنه يجعل الضحية تبتسم وهي تُسلَب.




