خبرني - حين نقول "الضيافة الأردنية"، فإننا لا نتحدث عن واجب اجتماعي عابر أو عادة متوارثة فحسب، بل عن منظومة قيمية وفلسفة إنسانية متجذّرة في الوجدان الجمعي الأردني. فالضيافة ليست مجرد استقبال للضيف وتقديم ما يُؤكل أو يُشرب، بل هي تعبير راقٍ عن الكرامة والمروءة والانتماء، وعن العلاقة العميقة بين الإنسان والمكان، بين الفرد ومجتمعه، بين الروح والهوية.
في البيئة الأردنية، بكل تنوعها الجغرافي من البادية إلى الريف فالمدينة، تشكّلت الضيافة كعنصر مركزي في بناء العلاقات الاجتماعية. في البادية القاسية، حيث المورد شحيح والعيش متقشف، وُلد الكرم كفعل مقاومة، وكوسيلة لحفظ ماء الوجه وتأكيد الإنسانية. لم يكن الكرم رفاهية، بل مسؤولية أخلاقية وقيمة ثقافية تعكس مدى احترام الفرد لذاته وللآخرين. أما في القرى، فقد ارتبطت الضيافة بمناسبات الحياة اليومية، من الفرح إلى الحزن، وأصبحت مناسبة لإعادة ترميم العلاقات المجتمعية وبناء الثقة. في المدن الكبرى، على الرغم من تبدّل أنماط الحياة وتسارع وتيرتها، حافظت الضيافة على مكانتها الرمزية، وإن أخذت أشكالًا مختلفة وأكثر تنظيماً، دون أن تغادر روحها الأصلية.
الكرم الأردني، في جوهره، ليس محصورًا بما يُقدَّم من ماديات، بل يرتبط بما يُعبر عنه من نُبل وتسامح وتقدير للإنسان. أن تفتح بابك للآخر، يعني أنك تفتح قلبك أيضًا. أن تسكب فنجان القهوة للغريب، يعني أنك تعترف بإنسانيته وتمنحه مكانة واحترامًا لا يحتاج إلى بطاقة دعوة. وكل حركة في هذا الطقس – من إعداد القهوة إلى تقديمها، إلى صمت لحظة الشرب – هي لغة ثقافية متكاملة، محمّلة برسائل غير منطوقة لكنها مفهومة بعمق بين أبناء هذا المجتمع.
ومع كل ما مرّ به الأردن من تحولات اقتصادية واجتماعية وسياسية، تظل الضيافة قائمة كواحدة من أجمل ملامح الشخصية الأردنية. صحيح أن الضغوط الاقتصادية والحضرية قلّصت من مظاهر الكرم التقليدي، إلا أن جوهر الضيافة بقي حاضرًا، يتجلى في طريقة الاستقبال، في نبرة الصوت، في حرص الأردني على أن يطمئن على ضيفه، ويسأله: هل ارتحت؟ هل أكلت؟ هل تحتاج شيئًا؟ هذه الأسئلة، وإن بدت بسيطة، إلا أنها تعكس عالمًا كاملًا من القيم والمشاعر التي لا تزال تنبض بالحياة.
في زمن باتت فيه العلاقات تتسم بالسرعة والجفاف، وأصبحت كثير من أشكال التواصل رقمية وباهتة، تبدو الضيافة كواحة إنسانية نحتاجها أكثر من أي وقت مضى. إنها تذكير بأن الإنسان لا يُقاس بما يملك، بل بما يمنح، ولا يُحترم بما يفرض، بل بما يشارك. حين نستعيد الضيافة كفعل ثقافي وإنساني، فإننا لا نحافظ فقط على تراثنا، بل نعيد تأكيد ذواتنا في عالم يميل إلى النسيان والتجرد من التفاصيل التي تمنح الحياة معناها الحقيقي.
الضيافة الأردنية، في عمقها، ليست صورة من الماضي، بل احتمال دائم للمستقبل. إنها دعوة إلى إعادة الاعتبار للقيم الإنسانية الأصيلة في عصر الحاجة الماسة إليها. إنها ليست فقط عن فتح البيت، بل عن فتح الروح. إنها ليست فقط عن تقديم الطعام، بل عن تقديم الاحترام والاعتراف بالآخر ككائن جدير بالمودة والمكان..