*
الثلاثاء: 23 ديسمبر 2025
  • 23 ديسمبر 2025
  • 16:30
تأملات في عدالة تمشي على عجل
الكاتب: عماد داود

ليس في المشهد الأردني اليوم ما هو أبلغ من هذه المفارقة اليومية الصامتة: مواطن يخبئ سيارته عن عين القانون لأنها “منتهية الترخيص”، ودولة تطلق مشاريع كبرى بثقة كاملة لأنها “مستوفية الإجراءات”. بين هذين الحدّين، لا يضيع القانون فحسب، بل تتآكل فكرة العدالة ذاتها، وتستقر في منطقة رمادية لا ترصدها الكاميرات، ولا تُقاس بعدّادات الغرامات!

 

ثلاثمائة ألف مركبة غير مرخصة — إن صحت التقديرات — لا تمثل ظاهرة مرورية بقدر ما تشبه أرشيفًا مفتوحًا للفقر المؤجل. كل مركبة منها ليست مخالفة عابرة، بل سيرة قصيرة لحياة مضغوطة: راتب يلامس الأربعمائة دينار ولا يكفي، إيجار لا ينتظر، فواتير كهرباء وماء لا تعرف التأجيل، طالب جامعة يحتاج مواصلات يومية، ودواء يُرحَّل لأن التأمين والترخيص وحدهما قد يبتلعان ما تبقى من الشهر. هنا، يصبح السؤال بديهيًا ومقلقًا في آن: هل عدم الترخيص قرار؟ أم نتيجة حتمية لمعادلة اقتصادية مختلّة؟

 

في الجهة المقابلة، وعلى مسافة غير بعيدة من هذه الشوارع المتعبة، تُطرح مشاريع حضرية كبرى بوصفها قاطرة النمو و جاذبة الاستثمار، وتُحاط بخطاب رسمي يؤكد — وبحق — سلامة الإجراءات، ووضوح الملكيات، وضرورة حماية المشاريع الوطنية من الشائعات. هذا الموقف مفهوم ومطلوب. لكن السؤال الأكثر ذكاءً لا يبدأ من الاتهام، بل من التحليل: لماذا بات الرأي العام مهيأً لتصديق فكرة "الامتيازات" أصلًا؟

الجواب لا يسكن في دائرة الأراضي والمساحة وخرائط الأراضي، بل في الإحساس الجمعي بأن ميزان العدالة يشتدّ حين يتعلق الأمر بالمواطنين الضعفاء، ويستقيم ويتأنّى حين تحضر الاستثمارات، ولا سيما تلك المرتبطة برؤوس أموال كبيرة أو عابرة للحدود.

 

في قانون السير، تتراكم الغرامات بلا سقف زمني واضح، وتنتشر الكاميرات بلا نقاش عام كافٍ، وتُسحب المركبة باعتبارها “خطرًا على السلامة العامة”. وفي الوقت نفسه، يغيب مسار سهل وواضح للاعتراض، ويتعثر التقسيط، ويتوارى الإعفاء الإنساني للمعسرين خلف إجراءات معقدة. في هذه اللحظة، يتبدّل دور القانون في وعي الناس: من نظام حماية إلى أداة ضبط مالي، ومن عقد اجتماعي إلى معادلة جباية. وهنا تحديدًا تولد المفارقة الأخطر: القانون الذي لا يراعي القدرة يتحول من حارس للنظام إلى منتج لفوضى صامتة.

 

لا تقف الحكاية عند السيارات. في هذا البلد، أشياء كثيرة “منتهية الصلاحية” وغير مسحوبة من الخدمة: أبنية عامة متهالكة، مدارس مهددة، شوارع محفّرة، مرافق لم تُحدّث منذ عقود، بل وحتى مواقع إدارية لم تخضع لفحص جدي منذ زمن طويل!. ومع ذلك، يتركّز الجهد الرقابي على المركبة الصغيرة، لا لأنها الأخطر بالضرورة، بل لأنها الأسهل ضبطًا، والأقل كلفة سياسيًا، والأسرع مردودًا.

ولأن السخرية أحيانًا أكثر صدقًا من الغضب، يمكن طرح سؤال يبدو عبثيًا لكنه كاشف: إذا كانت الدولة تحتاج إلى مساحات لحجز أعداد كبيرة من المركبات غير المرخصة، وإذا كانت الأراضي الواسعة المتداولة في النقاش العام متاحة ضمن مشاريع منظمة ومخططة، فلماذا لا يُتخيَّل — نظريًا فقط — تحويل جزء منها إلى ساحات حجز مجانية مؤقتة معفاة من الغرامات؟؟!!

هذا ليس اقتراحًا عقاريًا، ولا دعوة تنفيذية، بل مجاز ساخر يختبر طريقة تفكيرنا: هل نواجه الأزمات بعقلية الغرامة والحملة، أم بعقلية الحل وإعادة الدمج؟

القانون في جوهره ليس نصًا جامدًا، بل عقد ثقة. وحين يشعر المواطن أن هذا العقد يُطبّق عليه بحزم كامل، بينما يُدار مع غيره بمرونة واسعة، تبدأ الأسئلة بالتحول إلى شكوك، والشكوك إلى ضجيج، والضجيج إلى تآكل ثقة. عندها، لا تكفي بيانات النفي — مهما كانت دقيقة — لأن الثقة لا تُستعاد بالتكذيب وحده، بل بإعادة التوازن.

ما المطلوب إذًا؟

ليس إسقاط القانون، بل إعادة إنسانيته.

ليس تعطيل الاستثمار، بل شرح منطقه وعدالته للرأي العام.

ليس التساهل مع المخالفات، بل فتح أبواب الاعتراض، والتقسيط، والإعفاء المشروط بشفافية.

وليس إسكات الناس، بل الإصغاء لأسئلتهم قبل أن تتحول إلى قناعات صلبة.

هيبة الدولة لا تُبنى بتراكم الغرامات، بل بقدرة القانون على أن يكون عادلًا، مفهومًا، وقابلًا للتطبيق. والمشاريع الوطنية لا تحميها لغة التهديد، بل تحميها الشفافية الاستباقية، حين يشعر المواطن أن ما يُطلب منه في الشارع هو نفسه ما يُتوقع من الجميع في السوق.

ويبقى السؤال الحقيقي ليس: من يملك الأرض؟

بل: من يملك الشعور بالعدالة؟

فحين يفقد المواطن هذا الشعور، تصبح كل مدينة — مهما بلغت حداثتها — بلا روح، وتصبح كل سيارة — مهما استوفت شروط الترخيص — مجرد وسيلة هروب من واقع لا يُقنع أحدًا!

والعدالة، في النهاية، أشبه بقهوة الضيافة الأصيلة: لا تليق إن أُعدَّت على عَجَل. فإن أسرعنا في غليها، احتارت بين المرارة والرماد. وإن قدَّمناها بدرجتين—فاترة لمن يملك، وحارقة تُحرق اللسان لمن لا يملك—فقدت معنى الكرم كله.

والمفارقة التي توقظ السخرية السوداء، أنَّ الدولة تطارد في شوارعنا "العَجَل" الوحيد الذي تستطيع رصده بسهولة: العجلة المعدنية للسيارة الفقيرة. بينما تدور "عجلة" السياسات والتسهيلات الكبرى في مسارات أخرى، لا تُسرع حيث يجب الإسراع، ولا تبطئ حيث الحكمة في التمهل.

نحن لا نطلب من الدولة أن تقف، بل أن تسير بخطى واحدة مع كل أبنائها؛ فالعدالة التي تُصنع على نارين، وتُقدَّم في كأسين مختلفين، لن تكون عدالةً أبداً. ستكون مجرد مشروب عابر، لا يروي ظمأ الحق، ولا يوقظ ضمير المساواة.

هذا ليس مقالًا ضد الحكومة، بل مقال لصالحها.

فالحكومات القوية لا تخشى الأسئلة،

بل تقلق فقط من اليوم الذي يتوقف فيه الناس عن طرحها!

مواضيع قد تعجبك