*
الثلاثاء: 16 ديسمبر 2025
  • 01 حزيران 2025
  • 12:35
قبل أن تضرب الفأس بالرأس التحولات النفسية والاجتماعية لدى الشباب الأردني
الكاتب: الدكتور زيد احمد المحيسن

خبرني - لم يعد خافياً على أحد أن الشباب الأردني يعيش اليوم في قلب عاصفة من التحولات المتسارعة، التي تمس بنيته النفسية والاجتماعية بشكل مباشر وعميق. فجيل اليوم يقف على مفترق طرق حاد بين ماضٍ لم يغادره تمامًا، ومستقبل يُفرض عليه بكل أدوات الحداثة الرقمية والضغوط الاقتصادية وتغيرات القيم. وبين هذا وذاك، يتيه كثير من شبابنا في دوامة من القلق، والضياع، والبحث عن هوية.
إننا أمام أزمة تتجاوز حدود الفرد، لتُلامس جوهر المجتمع بأكمله. لم تعد معاناة الشباب مقتصرة على البطالة أو محدودية الفرص فحسب، بل تحوّلت إلى ما هو أخطر: انعدام المعنى، وهشاشة الانتماء، وتآكل الروابط الاجتماعية، وتضخم الشعور بالوحدة. لقد أصبح الشاب الأردني محاصراً بثقافة رقمية مفرطة في الفردية، ومجتمع في حالة انتقال غير محسوبة من الجماعة إلى الذات، ومن القيم إلى الأداء، ومن الرحمة إلى التنافس.
إن المتأمل في حال شبابنا يلحظ أن مظاهر القلق، والتوتر، واللامبالاة، وحتى السلوكيات الهدامة، لم تعد أحداثاً عابرة يمكن قراءتها بمنطق الإحصاء الطبي أو الرصد السلوكي فقط، بل هي مؤشرات على أزمة أعمق بكثير. إننا نشهد تحوّلاً اجتماعياً حاداً يعيد تشكيل وجدان الجيل الجديد دون أن نملك آليات مواكبة هذا التغير أو توجيهه. فالشاب الذي تربى على قيم الجماعة والتكافل يجد نفسه فجأة في عالم يطالبه بالاستقلال الكامل والمنافسة المطلقة، دون أن يُمنح أدوات التكيف، أو لغة التعبير، أو مساحة الحكي.
كثير من شبابنا يعانون اليوم في صمت. يبتسمون على الشاشات، ويتفككون في دواخلهم. يحملون أحلاماً كبرى، لكنهم لا يعرفون إلى أين يذهبون بها، ولا كيف يتعاملون مع إخفاقاتهم أو مع هشاشة المشاعر التي ترافقهم. يفقدون الثقة بالمؤسسات، ويبتعدون عن الدين كقيمة روحانية، ويتشبثون أحيانًا بما يقدمه لهم العالم الافتراضي من بدائل سطحية مؤقتة للانتماء.
هذه الأزمة ليست قدراً حتمياً، ولكن تجاهلها هو الكارثة بعينها. إن مجتمعاً لا يسمع أنين شبابه ولا يرى علامات التصدع في وجوههم ومواقفهم، هو مجتمع يغامر بمستقبله. لذلك فإن المطلوب اليوم ليس فقط دعمًا نفسيًا سطحياً أو مبادرات مؤقتة، بل رؤية مجتمعية شاملة تُعيد بناء منظومة العلاقات، تُعلي من قيمة الانتماء، وتُعيد الاعتبار للهوية المتجذرة في التقاليد مع قابلية الانفتاح الواعي على الحداثة.
علينا أن نعيد التفكير في نظامنا التعليمي، أن نجعل المدرسة والجامعة فضاءً للنمو النفسي والروحي لا مجرد حلبة للدرجات والنجاح الوظيفي. نحتاج إلى مؤسسات تُعنى بتشكيل الوعي، لا فقط بإدارة الأزمات. نحتاج إلى خطاب ديني وثقافي يواكب أسئلة الجيل، لا يُقصيها أو يحكم عليها. وقبل كل شيء، نحتاج إلى أن نستمع، بصدق، لأصوات الشباب، حتى نمنع لحظة الانفجار الكبرى التي لا ينفع عندها العويل ولا البكاء.
إن الفأس لم تضرب الرأس بعد، لكن صوتها يقترب. وإن لم نتحرك الآن، وبوعي، فإن الأوان قد يفوت. وما نخسره حينها لن يكون مجرد جيل ضائع، بل مجتمع بأسره يفقد صوته وروحه ومستقبله..
 

مواضيع قد تعجبك