خبرني - في عالم يتسارع فيه التغيير وتتشابك فيه السياسة مع مفاصل الحياة اليومية، لم يعد من الممكن أن تبقى الجامعات معزولة عن محيطها السياسي والاجتماعي، أو أن تكتفي بدور الناقل للمعلومة الأكاديمية المجردة من السياق العام. إن من واجب الجامعة أن تربي العقل المفكر، والمواطن الواعي، والشاب القادر على فهم ما يدور حوله، لا أن تخرّج حشدًا من المتعلمين المنفصلين عن قضايا وطنهم ومجتمعهم. من هنا، تبرز أهمية الثقافة السياسية كضرورة ملحة في حياة الطالب الجامعي، لا باعتبارها انتماءً حزبيًا أو ميولًا أيديولوجيًا، بل كوعي عام ينمّي فيه روح المسؤولية والمشاركة والفهم النقدي.
إن الثقافة السياسية في هذا السياق تعني التسلح بالمعرفة التي تمكّن الطالب من فهم النظام السياسي الذي يعيش في ظله، والتفاعل الواعي مع قضايا الحكم والدستور والحقوق والحريات. إنها ليست عملية تلقين، بل مسار تعليمي نقدي يفتح العقل على التعدد والتنوع، ويعزز القدرة على طرح الأسئلة لا تكرار الشعارات. الطالب المثقف سياسيًا هو من يعرف كيف يُميّز، لا من يُملى عليه كيف يختار. هو من يسعى إلى الحقيقة، لا من ينتمي إلى شعار. بهذا المعنى، تصبح الثقافة السياسية في الجامعة أداة تحرر لا وسيلة تجنيد.
لكن الخطر كل الخطر أن تنقلب هذه الثقافة السياسية إلى بوابة للعمل الحزبي المنظم داخل الجامعات. ذلك أن الأحزاب، بطبيعتها، تسعى إلى كسب الأتباع، وترسيخ الولاءات، وتحقيق النفوذ، وهذا ما يتنافى مع روح الجامعة القائمة على التفكير الحر والنقاش المفتوح. عندما تدخل الأحزاب إلى الحرم الجامعي كتنظيمات، فإنها لا تفكر في مصلحة الطالب بل في كيفية توجيهه لخدمة مشروعها السياسي. وعندها، لا تعود قاعة المحاضرة مكانًا للعلم، بل منبرًا للدعاية؛ ولا تبقى الساحات أماكن للحوار، بل ميادين للانقسام والاصطفاف.
إن العمل الحزبي داخل الجامعات يُنتج بيئة مشحونة بالتوتر والفرز، ويغتال التنوع الفكري الحقيقي لصالح التبعية والانغلاق. وهو يهدد حياد المؤسسة الأكاديمية، ويفرض على الطالب مناخًا لا يسمح له بأن ينمو في حرية، بل يضعه أمام خيار الانتماء أو التهميش. وهذا ما يتناقض جوهريًا مع الرسالة التربوية للجامعة، التي يجب أن تكون فوق الانتماءات والأجندات، وأن تحترم جميع الآراء دون أن تنحاز لأي طرف.
من حق الطالب أن يتثقف سياسيًا، بل من واجبه أن يكون على دراية بما يجري حوله، ولكن ليس من حق أي حزب أن يحوّل هذا التثقيف إلى وسيلة استقطاب. يجب أن تُتاح للطلاب المساحات المفتوحة للنقاش، والندوات، والمناظرات، ولكن بشرط أن تبقى هذه الفضاءات حرة من الهيمنة والتوجيه. فالجامعة ليست مكانًا لتفريخ المؤيدين، بل لتكوين العقول الحرة والمستقلة وصدق القائل اذا دخلت الحزبية من أبواب الجامعات خرج التعليم والمعرفة من الشباك وكبر على التعليم والمعرفة والاجيال اربع تكبيرات ..
من هنا نقول: نعم للثقافة السياسية الواعية التي تُنير الطريق، وتفتح المدارك، وتغذي في النفس روح الانتماء للوطن لا الولاء لفئة. ونقول في الوقت نفسه: لا للتحزب الحزبي الذي يختزل الطالب في خانة، ويفرض عليه الانتماء بدل التفكير، ويشوّه مبدأ التعددية بتحويله إلى انقسام. إن العقل الجامعي يجب أن يكون طليقًا، لا أسيرًا. والمواطن الصالح هو الذي يبني وطنه بعقله، لا بشعارات حزبه.
فلنحمِ جامعاتنا من الاستقطاب، ولنصنْع فيها جيلًا يعشق الحقيقة، لا يعيد ترديد الروايات. جيلًا يقرأ الواقع بعقله لا بعين غيره، ويشارك في بناء الوطن دون أن يُستَغل في صراعات لا ناقة له فيها ولا جمل. نعم للثقافة السياسية التي تحرر... لا للتحزّب الذي يقيّد. فالجامعات أوطان مصغّرة، وأوطان الأفكار لا تبنى إلا بالعقل الحر، لا بالانتماء الأعمى..




