خبرني - في مجتمعاتنا العربية، تُعتبر الأم رمزًا للتضحية والحنان "، ومكانتها عالية في القلوب والضمائر. لذلك، عندما نرى ابنًا أو ابنة يسيء إلى أمه، نشعر بالصدمة وكأن شيئًا غير طبيعي يحدث. لكن الحقيقة أن هذه الظاهرة تتكرر كثيرًا، سواء في شكل جفاء عاطفي، أو تجاهل، أو حتى كلمات قاسية وتصرفات مؤذية. والسؤال المهم هو، لماذا يحدث هذا؟ ما الذي يجعل بعض الأبناء يسيئون إلى من أحبتهم بصدق وبدون شروط؟
علم النفس التحليلي، خصوصًا عند المفكرين الشهيرين سيغموند فرويد وكارل يونغ، يقدم لنا تفسيرات عميقة ومفيدة. هذه التفسيرات لا تبرر الإساءة، لكنها تساعدنا على فهم أسبابها الحقيقية.
بحسب فرويد، تبدأ العلاقة بين الطفل وأمه منذ اللحظات الأولى في حياته، ويكون التعلق بها شديدًا. ومع نمو الطفل، يدخل في مرحلة يسمّيها فرويد "عقدة أوديب"، وهي رغبة لا شعورية في التقرّب الشديد من الأم ورفض الأب كمنافس. مع الوقت، يتجاوز معظم الأطفال هذه المرحلة، لكن بعض المشاعر تبقى عالقة في العقل الباطن. فإذا شعر الطفل أن أمه كانت مسيطرة عليه أو لم تمنحه الحرية، قد يكبر وهو يحمل تجاهها مشاعر غضب خفية تظهر لاحقًا على شكل إساءة أو قسوة.
أما كارل يونغ، فيشرح الأمر من زاوية مختلفة. هو يرى أن الإنسان يحمل بداخله جزءًا مظلمًا من المشاعر المكبوتة يسمّيه "الظل". وإذا لم يواجه الشخص هذا الجزء من نفسه بصدق ووعي، فقد يُسقِط تلك المشاعر السلبية على من حوله. وفي كثير من الأحيان، تكون الأم أول من يتلقى هذا الإسقاط، لأنها الأقرب إلى الابن أو الابنة. فيصبح الابن غاضبًا من أمه، لا لأنها أذتْه فعلًا، بل لأنه يرى فيها ما لا يحب أن يراه في نفسه.
الإساءة للأم لا تكون دائمًا بالصراخ أو العنف. أحيانًا تكون بالإهمال، أو بعدم التقدير، أو بلومها على كل ما فشل فيه الابن في حياته. وقد يكون السبب شعورًا داخليًا بأن الأم لم تكن كما أراد، أو أنها كانت حاضرة في حياته بشكل زائد عن الحد، لدرجة أنه لم يعرف كيف يكون نفسه بعيدًا عنها. ومع أن الابن قد يحب أمه، إلا أنه يوجّه لها غضبه لأنها الأمان الوحيد الذي لا يخاف أن يخسره.
المؤلم أن كثيرًا من الأمهات يتعرضن لهذا النوع من الأذى لأنهن الأقدر على التحمل. فهنّ نادرًا ما يرددن الإساءة، وقلّما يبتعدن عن أبنائهن مهما فعلوا. وهذا يجعل الابن أو الابنة يتعامل معه امه كمنفَس لتفريغ مشاعره السلبية.
مرة أخرى، هذا لا يُبرّر السلوك المؤذي، لكنه يدعونا إلى الفهم. وهذا لا يعني تبرئة من يسيء، بل يعني محاولة علاج المشكلة من جذورها. لأن العنف أو القسوة تجاه الأم في كثير من الأحيان ليست ناتجة عن الكراهية، بل عن ألم داخلي لم يُعالَج.
علينا أن نتوقف قليلًا ونسأل أنفسنا، هل نُعامل أمهاتنا بما هن عليه فعلًا؟ أم نُحمّلهن أعباء مشاعرنا غير المفهومة؟ أن نحب أمهاتنا لا يعني بالضرورة أننا نُحسن إليهن. فالحب لا يُلغي الألم، ولا يغني عن الاحترام والاعتراف بما قدمنه.
ختامًا، ليست هذه دعوة لتبرير العقوق، بل للتفكير العميق. لأن أول خطوة نحو تغيير العلاقة تبدأ بأن نعترف بأننا بشر، وأن مشاعرنا معقدة، وأن أمهاتنا لسن مثاليات لكنهن بذلن ما استطعن. الفهم، ثم الاعتذار، ثم التصالح، هو الطريق لشفاء كثير من الجراح التي لا تُرى، لكنها تُؤلم بعمق.
أخيرًا، ليس كل من يرفع صوته على أمه قاسي القلب، لكنه بالتأكيد لم يصالح جراحه بعد. فالأم لا تحتاج منا الكمال، بل أن نعاملها بالوعي الذي نَستحق به حبها.




