في عالمٍ يزداد ترابطًا وتداخلًا، لم تعد المدن مجرّد كيانات جغرافية تؤدي أدوارًا خدمية محدودة، بل باتت فاعلًا أساسيًا في صياغة السياسات العالمية وصناعة المستقبل. ومن بين هذه المدن، تبرز عمّان، التي لم تكتفِ بأن تكون مركزًا إداريًا أو تجمعًا سكانيًا، بل تحوّلت إلى نموذجٍ ملهم في دبلوماسية المدن، حيث استطاعت أن تنسج شراكات دولية حيّة، تتجاوز حدود الجغرافيا واللغة والثقافة، من أجل بناء مستقبل حضري أكثر عدالة وازدهارًا وشمولًا.
لقد انطلقت عمّان في رحلتها نحو هذا الدور العالمي مدفوعةً بإيمانٍ راسخ بأن التعاون الدولي ليس ترفًا بل ضرورة، وأن مجابهة التحديات الحضرية المعقدة لا يمكن أن تتم إلا من خلال تبادل التجارب والخبرات، وبناء جسور الثقة بين المدن. ومن هذا المنطلق، انفتحت على عواصم ومدن عربية وأوروبية، وأبرمت اتفاقيات وشراكات تركز على النقل المستدام، والتحول الرقمي، والإدارة البيئية، والتأقلم مع التغير المناخي.
ويبرز من بين هذه المبادرات مشروع الحي النموذجي، الذي يُترجم الرؤية الشاملة للمدينة في تحويل الفضاءات العامة إلى بيئات أكثر عدالة واحتواء، حيث تُراعى احتياجات الفئات المهمشة ككبار السن والأشخاص ذوي الإعاقة، ويُعاد تعريف مفهوم الشارع والساحة لتكون للجميع، بلا استثناء أو تمييز. وضمن هذا الإطار، تمضي المدينة قدمًا نحو إعادة تأهيل أحيائها التاريخية، كمشروع العبدلي، الذي يسعى إلى جعل التنقل الحضري أكثر سهولة وإنسانية وغيرها من المشاريع المستقبلية .
هذه التجارب لم تكن معزولة، بل جاءت ضمن شبكة من العلاقات المتينة التي تربط عمّان بالعديد من المبادرات والشبكات الدولية، والتي شكلت منصة فاعلة لتبادل المعرفة والتأثير في صنع القرار العالمي، خاصة في قضايا المدن الذكية، والعدالة الاجتماعية، والتمويل الحضري. ولم يكن الهدف من هذه المشاركة هو الحضور الرمزي، بل التفاعل الحقيقي مع التحديات، وصياغة حلول قابلة للتنفيذ، ذات بُعد محلي وروح عالمية.
إن دبلوماسية المدن، كما تجسّدها عمّان، ليست مجرد تبادل للزيارات أو توقيع للوثائق، بل هي فعل مستمر من الإصغاء والتخطيط والعمل المشترك، وهي أيضًا رهان على الإنسان، باعتباره جوهر التنمية ومحورها. ولعلّ الاستثمار في الجيل الجديد من القادة المحليين والمجتمعات الناشئة، يمثّل أحد أعمدة هذه الرؤية، لأنه يضمن استمرار التغيير، وامتداد أثره عبر الزمن.
عمّان اليوم ليست فقط مدينة تبحث عن حلول لمشكلاتها، بل مدينة تعرض تجربتها وتشارك رؤيتها، وتدعو غيرها من المدن إلى العمل الجماعي والتخطيط طويل الأمد. وهي بهذا تمثل وجهًا معاصرًا لعاصمة عربية تنهض بثقة، وترى في التحدي فرصة، وفي الشراكة قوة، وفي التنوع مصدرًا للإبداع. دبلوماسية المدن ليست شعارًا عابرًا، بل هي روح جديدة تسكن عمران عمّان، وتعيد تعريف دور المدينة في زمن أصبح فيه للعواصم صوتٌ، وللجوار حضور، وللمستقبل بابٌ يُفتح بالتعاون لا الانغلاق..




