في مشهد الحياة العامة في بلادنا، تتبدى فجوة واضحة بين مفهوم "الوطني" ومفهوم "السياسي"، وهي فجوة ليست فقط فكرية بل تمتد لتؤثر في البناء المجتمعي والسياسي على حد سواء. فالوطني، بطبيعته، يسعى إلى زرع بذور التنمية والوعي في الأجيال، وينظر إلى المستقبل بعين الراعي المسؤول. أما السياسي، في كثير من الأحيان، فهو لا يرى أبعد من صندوق الاقتراع، منشغلاً بالحسابات الانتخابية القصيرة المدى، يطلّ قبيل الانتخابات بأجندة مليئة بالوعود، ثم يغيب عنها لسنوات.
هذه الفجوة تُلقي بظلالها بشكل خاص على المحافظات، التي باتت تعاني من تراجع واضح في القيادات المحلية الشابة. لقد أصبحت العاصمة عمّان مركزًا لجذب الطاقات الشابة من مختلف المناطق، حيث تنتقل الكفاءات بحثًا عن فرص أوسع، مما يترك المحافظات خالية من الكوادر المؤهلة لقيادة العمل الأهلي و البلدي والمجتمعي.
في السابق، كانت كل محافظة تحتضن قادتها المحليين؛ الشيخ الوازن الذي يُحتكم إليه في النزاعات، رئيس البلدية الذي يعرف تفاصيل كل شارع وزقاق، والمثقف الذي يبادر في نشر التوعية والتعليم. أما اليوم، فإن هذه الأدوار آخذة في التلاشي، نتيجة ضعف برامج إعداد النخب الشبابية القيادية داخل تلك المحافظات.
إن إعداد قادة محليين ليس ترفًا، بل هو ضرورة وطنية. فالمجتمعات لا تنهض إلا من داخلها، ولا تُبنى المدن إلا بأبنائها. لا يمكن أن تبقى العاصمة وحدها محور التحرك السياسي والاجتماعي، بينما تُترك المحافظات في فراغ قيادي واجتماعي قاتل. هذا الخلل يؤدي إلى تهشيم الروح المجتمعية، ويُضعف مناعة المحافظات في وجه التحديات الاقتصادية والاجتماعية.
من هنا، تبرز الحاجة الماسة إلى إعادة النظر في برامج تأهيل وتمكين الشباب في المحافظات، وتوفير البيئة المناسبة لهم للقيادة والمشاركة الفاعلة، بعيدًا عن التهميش أو الاستغلال السياسي. فالوطن لا يُبنى في موسم انتخابي، ولا يُدار بمنطق الغياب، بل بالعمل المستمر على خلق قادة حقيقيين ينبضون بهموم الناس ويسعون لحلّها.
وفي نهاية المطاف ، فإن الفرق بين الوطني والسياسي ليس مجرد تعريف، بل هو موقف من الحياة العامة ومسؤولية تجاه الوطن. والرهان الحقيقي يجب أن يكون على الأجيال القادمة، لا على أصوات الصناديق المؤقتة ..




