العودة إلى التاريخ، وأثناء الحرب العالمية الأولى في شباط 1918، وبعد الاستيلاء على أريحا من قبل القوات البريطانية، وقع أول هجوم على الأراضي الأردنية، وسُمّي هجوم عمان، حيث تجاوز أخدود وادي الأردن إبان الحكم العثماني. استمر احتلال وادي الأردن حتى أيلول من نفس العام، وكان ذلك ضرورة استراتيجية لقوات إدموند اللنبي للوصول إلى جبال السلط وعمان.
مبكرًا، ظهرت نوايا الكيان الصهيوني من خلال طرح خطة الوزير إيغال آلون لتقسيم الضفة الغربية، والاستيلاء على غور الأردن، وإقامة دولة درزية في الجولان، مباشرة بعد انتهاء العمليات العسكرية في 14 حزيران 1967. وحسب النوايا التلمودية، انتهجت دولة الاحتلال سياسة الضم وسرقة الموارد، واعتبرت منطقة غور الأردن وشمال البحر الميت، الممتدة من طبريا شمالًا إلى البحر الميت جنوبًا، عمقًا استراتيجيًا، حيث تبلغ مساحتها أكثر من 1.6 مليون دونم، وتشكل 28.8% من مساحة فلسطين.
تنقسم المنطقة إلى ثلاث مناطق حسب اتفاق أوسلو، حيث تخضع 88% من أراضيها (المنطقة ج) للسيطرة الإسرائيلية، بينما تمثل المنطقة أ، التابعة للسلطة الفلسطينية، حوالي 7%. يعتبر غور الأردن سلة الغذاء الفلسطينية، ومخزون المياه الدائم، والمنطقة الاستراتيجية الأهم لدولة الاحتلال.
ومع معركة الكرامة، تمكن الجيش العربي الأردني من دحر العدوان وكبح جماح المخطط الجيوسياسي الصهيوني، إلا أن دولة الاحتلال استمرت، عبر ألاعيب وحيل قانونية، في التوسع تحت ذرائع دينية وتاريخية مزيفة. قامت بقضم أكثر من 80% من أراضي المنطقة، وتسير بخطوات متسارعة لاستكمال السيطرة على ما تبقى من غور الأردن وشمال البحر الميت عبر إقامة محميات طبيعية، مناطق عازلة مليئة بالألغام، 90 قاعدة ومنشأة عسكرية، و37 مستوطنة، إضافة إلى مناطق دفن النفايات. كما بدأت بإقامة سياج حدودي وجدار عازل، مع عدد سكان لا يتجاوز 65 ألف فلسطيني، مقابل 12 ألف مستوطن.
تسعى إسرائيل، بغض النظر عن لونها السياسي الداخلي، إلى ضمان الاستقرار الأمني، ومنع سكان الأغوار من أي نشاط مقاوم، إلى جانب تهجير التجمعات البدوية والرعوية، كخطوة أساسية في عملية التغيير الديمغرافي تمهيدًا لاستكمال عملية الضم. باتت هذه الممارسات الاستفزازية تشكل تهديدًا حقيقيًا للأردن، وانتهاكًا صارخًا للسيادة والقوانين الدولية.
حسب خرائط صفقة القرن، تم منح 964 كم² من أراضي غور الأردن لدولة الاحتلال، لكن وفق مخططات نتنياهو وبرنامجه الانتخابي عام 2019، فإنه يسعى إلى الاستحواذ على 1236 كم²، وهو ما يتماشى مع وعوده السابقة منذ 20 عامًا. يهدف نتنياهو من خلال ذلك إلى البقاء في الحكم، الحصول على الحصانة، والتغطية على فساده، عبر التحالف مع اليمين المتطرف.
يشير هذا المخطط إلى أن الدولة الفلسطينية ستكون رهينة بالكامل لدولة الاحتلال، وسيتم عزلها عن العمق العربي من خلال قطع التواصل عبر النافذة الأردنية، إضافة إلى السيطرة على مصادر المياه وسلة الغذاء في غور الأردن. كما سيتسبب في تقطيع أوصال التواصل الاجتماعي بين الضفتين، إلى جانب خسارة 600 مليون متر مكعب من المياه، وضياع فرص اقتصادية تُقدّر بأكثر من 3.5 مليار دولار.
وفقًا للمواثيق الدولية وقرارات الأمم المتحدة، فإن الأغوار الفلسطينية جزء لا يتجزأ من الأراضي المحتلة عام 1967، وعملية الضم مخالفة لاتفاقية جنيف 1949. كما أن اتفاقية وادي عربة، في بندها الثالث، أكدت أن الحدود الدولية بين الأردن وإسرائيل دائمة وآمنة، استنادًا إلى تعريف الحدود أيام الانتداب البريطاني.
ورغم ذلك، فإن هذه الانتهاكات تتم أمام صمت دولي وتواطؤ أمريكي، تقوده الدول الأوروبية الاستعمارية، وسط حالة من الضعف والارتباك العربي.
النهب المستمر لغور الأردن منذ 1968
يمتد تاريخ النهب الصهيوني للسيطرة على أراضي غور الأردن وإقامة المستوطنات منذ عام 1968، حيث أصبحت مساحة المستوطنات اليوم أكبر بأربعة أضعاف مما كانت عليه قبل حرب 1967. قامت إسرائيل بالإعلان عن 45% من المنطقة كمناطق عسكرية، و20% كمحميات طبيعية، كما أنشأت 64 حقل ألغام، واستحوذت على أكثر من 80% من أراضي المنطقة ومصادر المياه، ومنعت الفلسطينيين من استغلالها، بينما خصصت 45 مليون متر مكعب سنويًا لصالح 12 ألف مستوطن فقط.
يشكل التصعيد الإسرائيلي الأخير في منطقة الأغوار انتهاكًا واضحًا لاتفاقيات السلام السابقة، ويهدد بإجهاض أي مبادرة دبلوماسية قادمة، مما يزيد الضغط على الأردن، ويثقل كاهله اقتصاديًا وأمنيًا. ويدفع ذلك المملكة إلى مربع المواجهة المباشرة مع إسرائيل والحليف الأمريكي، مما يستدعي رفع مستوى التعبئة الوطنية، والتخطيط التنموي والاقتصادي والاجتماعي المقاوم لسياسة اليمين المتطرف، من خلال صياغة مشروع وطني أردني ورؤية استراتيجية متماسكة.
على الجانب الفلسطيني، تقع مسؤولية وطنية كبيرة للخروج من الأزمة الحالية، والابتعاد عن الانقسام السياسي، والتوجه نحو برنامج وطني موحد، دون الارتهان للوعود الإسرائيلية الوهمية.
كذلك، يُطلب تحرك عربي جاد لدعم الموقف الأردني الذي يقوده جلالة الملك في كافة المحافل الدولية، مع العمل على تجميد العلاقات الرسمية العربية مع إسرائيل، والابتعاد عن فلك التطبيع، إضافة إلى تحشيد الرأي العام العربي والدولي، والمنظمات الحقوقية، لإجهاض مخططات الضم وفضح السياسات الإسرائيلية التضليلية، قبل أن يتحرك الغطاء الأمريكي نحو شرعنة الضم رسميًا.




