شهدت الأشهر الأولى من العام 2021 ارتفاعاً في نسب بيع العقارات في المملكة الأردنية الهاشمية، وكذلك ارتفعت نسبة الرخص الممنوحة للبناء مقارنة بالعام الماضي، فما هو التبرير لهذا الإرتفاع؟
لقد حبس العالم أنفاسه منذ أن إجتاحه وباء كوفيد ١٩ فتعطلت الحياة الطبيعية وما يرافقها من زيادة بالإنتاج لتلبية النمو السكاني، وما أن إستطاعت بعض الدول تصنيع مطعوم يحمي بنسب مختلفة من الإصابة بالوباء والبدء بالتطعيم على مستوى واسع بالعالم، حتى جرى تبديد المخاوف وبدأت الناس بالعودة الى حياتها الطبيعية والتي أساسها العقار من أرض للإستثمار وبناء للإستعمال. والمملكة، على صغر مساحة أرضها، وقلة عدد سكانها، ليست ببعيدة عما يجري بالعالم، إن لم تكن من الأشد تضرراً من الحظر لهشاشة الاقتصاد بسبب قلة الموارد الطبيعية.
الإرتفاع بنسبة بيع العقارات الذي شهدته المملكة في مطلع العام ٢٠٢١ ما هو إلا عودة إلى المسار الطبيعي للنمو سواء بإرتفاع عدد رخص البناء الجديدة، أو لنقل عودتها للمنحى الطبيعي، أو زيادة أعداد الشقق المباعة في مطلع هذا العام بالمقارنة مع العام الماضي، مع أني لا أحبذ إستخلاص النتائج من الظروف الإستثنائية وأتجنب القياس بالإستناد عليها. ما جرى ويجري هو عودة الإيقاع الى ما كان لخدمة ما سيكون.
ومن المعلوم بأن طلبات الحصول على رخصة الإنشاءآت تقدم من خلال المكاتب الهندسية المرخصة والتي تجهز المعاملات وتدفع بها للتدقيق الفني الى الجهة المخولة بذلك وفقاً لقانون البناء الوطني، وهي نقابة المهندسين الأردنيين، وتقسم المساحات الى ثلاثة أنواع هي، مقترح، قائم مراد ترخيصه، قائم مرخص.
وتعتبر آلية السوق من عرض وطلب المحرك لطلبات الترخيص والتي تحدد مكان ونوع وسعر العقار، والمعرّف بالأرض أو البناء الذي عليها وفقاً لقانون الملكية العقارية الذي جرى إقراره مؤخراً. ويلاحظ زيادة في مساحات القائم المراد ترخيصه في العام ٢٠١٧ حيث حددت أنظمة البناء لأمانة عمان والبلديات مهل لترخيص القائم، وهذا دليل إلى الحاجة لتطوير التشريعات لتحريك السوق العقاري عند اللزوم.
صحيح أن لآلية السوق أثر مباشر في تحريك السوق العقاري، إلا أنها تتأثر بالخطط الإستراتيجية الموضوعة، فعلى سبيل المثال، لعب تغيير إستراتيجية الإسكان في العام ١٩٨٧ دوراً أساسياً في خفض مساحات السكن الاجتماعي الذي كانت توفره الدولة من خلال ذراعها، المؤسسة العامة لإسكان والتطوير الحضري، وتم فتح القطاع على مصراعيه أمام القطاع الخاص ليغطي قرابة ٩٩٪ من الإنتاج السكني، والذي شكلت رخص البناء منه ما نسبته ٩٤٪ من مجموع نسب رخص البناء في العام ٢٠٢٠.
إن الإعتماد على آليات السوق الرأسمالي هي إستراتيجية بحد ذاتها، ولكنها غير كافية في بلد يحتاج إلى تدخل الدولة لتحقيق أهداف التنمية المتوازنة التي وضعتها الحكومات المتعاقبة إستراتيجية لها، ولكن الأرقام المنشورة تشي بوجود غزارة بالإنتاج وسوء بالتوزيع، حيث استحوذ إقليم الوسط على ما نسبته ٦٢٪ من إجمالي مساحة الأبنية المرخصة بينما هي حصة إقليم الشمال قرابة ٢٩٪ وإقليم الجنوب بما نسبته ٩٪ في مطلع العام ٢٠٢١ وهي نسب مقاربة جداً للأعوام التي سبقته، حيث تعزز آليات السوق نمو المدن على حساب الأطراف.
ويحكم عملية البناء بالأردن عدة قوانين من أهمها قانون تنظيم المدن والقرى والأبنية رقم ٧٩ لسنة ١٩٦٦ وتعديلاته حيث يركز على وجوب إعداد مخططات تنظيم إقليمية وهيكلية وهيكلية تفصيلية، وهذا الأمر مغيب منذ عقود، فلا أحد يجرؤ على الإقتراب من هذا القانون الشامل، ولا أحد يرغب بتطبيقه بشموليه، والسبب بسيط وهو أن القانون ينظم الأراضي ويحدد إستعمالاتها ويفرض إتجاهات النمو ونطاقها، بينما آليات السوق تسعى للتحرر من القيود التي يفرضها التخطيط المنظم ومستعدة للإنقاب على كل شيء في سبيل الإبقاء على المرونة التي تبرر بقائها وتضمن تطورها. المشكلة في الإقتصادات الصغيرة هي آنها رهينة للإملاءآت الخارجية مضطرة للإنصياع إلى قوانين التجارة الحرة لتصبح سوق إستهلاكي بدلاً من أن تكون وعاء لإنتاج الزراعي والصناعي الوطني، وبذلك يجري التجميد بالعمل بالقوانين التي سنت بهدف التحرر من الانتداب والتبعية، ألا أنها عادت إلى اليها من خلال آليات السوق الرأسمالي التي أوصلت العالم لتكدس الثروات بيد حفنة قليلة من البشر مما حدى برئيس المنتدى الاقتصادي العالمي شواب الى الدعوة لإعادة النظر بالنظام الرأسمالي برمته لفتح المجال للتوزيع العادل للثروات بين الناس.
عملية البناء بالأردن محكومة بآليات السوق الرأسمالي، فهناك من يدفع بالتحرير الكامل للإقتصاد ووضعه بعهده القطاع الخاص، وهناك من يرغب في سيطرة القطاع العام على مفاصل الحياة بجميع جوانبها، ولطالما هذا التجاذب موجود، ستظل عمليه البناء رهينة لهذه الآليات في ظل إنسحاب الحكومة من الإنتاج العقاري من توفير قطع مخدومة أو مساكن مقبولة.
آليات السوق لا تأبه بالتخطيط المركزي وتسعى للعمل عند تزاحم الأقدام، وهذا يؤدي الى التمركز السكاني أو ما يعرف بالإنجليزية Agglomeration وقد أدى ذلك الى تشكل كتلة حضرية وازنة في عمان والرصيفة والزرقاء شرقاً، وصويلح والسلط غرباً، كتلة تحوي ثلاثة أرباع سكان المملكة، مما يخل بالتوازن الذي تسعى لتحقيقه الإستراتيجيات المكانية.
إن تمركز النشاطات الاقتصادية بالعاصمة وتوسعها بجميع الإتجاهات خَلق كتلة حضرية متصلة ينحشر فيها غالبية سكان البلد بحيث أصبح التنقل مأساة تقود الى الإنسداد الحضري أو كما يعرف شعبياً "البلد كربجت" إطلاق العنان لحربوك السوق سينشر المتاجر والبسطات بين الأحياء السكنية وسيضع الدولة ومؤسساتها الأمنية في صدام مع الناس، هذا كله بسبب إنفلات السوق وغياب التنظيم.
في ظل تجميد العمل بإعداد المخططات الهيكلية التي نص عليها قانون التنظيم، ستعمل البلديات وفقاً لآلية السوق التي تلحق بتجار العقار ولا تسبقهم. تجار عقار وسماسرة يفرضون إيقاع السوق سعياً وراء الكسب السريع دون الإلتفات الى أثر ذلك على الإخلال بالتوازن أو تعزيز التنمية المستدامة، أو الإعتداء على الأراضي الزراعية والأحواض المائية أو المناطق التعدينية، وقد يروق ذلك لبعض الحكومات التي ترى بذلك على المديين القصير والمتوسط نهضة عقارية ورخص بناء بنمو مضطرد، الا انه يفوتهم الأثر طويل المدى من الغزو الإسمنتي، وقطع الطريق على إتباع نهج التخطيط العمراني الذي يوازن بين جميع القطاعات الإنتاجية بالبلد. وقد ساعد خروج اللآجئين السوريين من المخيمات التي خصصت لهم للعيش بالمدن دون ضوابط في زيادة الكثافة السكانية بالمدن والتي تشجع عليها أمانة عمان والبلديات لزيادة دخلها من الرسوم والضرائب.
صحيح أن إستراتيجية التكثيف العمراني التي أقرتها أمانة عمان الكبرى في العام ٢٠٠٧ تحد من الإنتشار الأفقي Urban Sprawl والإستغلال الأمثل للبنية التحتية، ولكن تطبيقها على كامل إنتشار مساحة عمان والتي وصلت الى ٨٠٠ كيلومتر مربع (تعادل ٨٠ ألف هكتار وبمعدل ١٥٠ شخص للهكتار في الكثافة العالية يعني قدرة مدينة عمان بإتساعها الحالي على استيعاب ١٢ مليون نسمه) وهذا ما نخشاه كمخططين حضريين من زيادة التمركز في العاصمة مما يفرغ مناطق الإنتاج الزراعي والصناعي والتعديني من البشر، ويعرض أمن الدولة للخطر بتفريغ مدن الأطراف من المجتمع المتراص المتكاتف والرديف القوي لجيشه المنتشر على كامل مساحة الوطن.
الطريق الواجب إتباعه بالنسبة لي كمستشار بالعمارة والتخطيط الحضري واضح، ويقضي بالإسراع بإعداد كودة التخطيط والتصميم الحضري التي تحسم حالة التجاذب هذه وتضع بيد الجهات المهنية والتنظيمية أداة لتنظيم الأراضي وتعزز قانون التنظيم وتأطر أنظمة البناء الصادرة بموجبه. كودة يعدها مختصين ويراجعها مهتمين، واجبة التطبيق الفوري تصدر بموجب أحكام قانون البناء الوطني وتقطع الطريق على الإجتهادات والواسطات والمحسوبيات.




