*
الثلاثاء: 30 ديسمبر 2025
  • 24 تموز 2022
  • 16:33
الراعي الوحيد  The Lonely Shepherd
الكاتب: عوض ضيف الله الملاحمه
الراعي الوحيد The Lonely Shepherd

في هذا اللهيب الوجداني ، والتفاعل مع الأحداث ، ورُعبنا على وطننا الصغير والكبير ، وإنحدارهما الخطير  ، وأعمارُنا لم تعد تُسعفنا على تحمل هذا الضيم ، والظلم ، والقهر ، والفَجرةُ يقودون الأوطان ، ويحددون مسارها ، ويكتبون تاريخها المُعيب وإنحدارها المُخيف ، وجدت انه لزاماً عليّ ان أُروِّح عن أنفسنا ، ولو قليلاً ، وأن أُخفف من القهر الذي أصاب قلوبنا المُتعبة ، وأتحدث  عن مقطوعة موسيقية رائعة وراقية ، تسمو بالنَفْس ، وتُبطيء النَفَس من اللُّهاث وراء الأخبار المُفزعة التي ننام ونصحو عليها . 

مقطوعة موسيقية يعزفها فنان ، او عازف او موسيقي  روماني عظيم ، إسمه جورج زامفير  ((  Gheorghe  Zamfir ))  ، مواليد عام ١٩٤١ ، على آلة جميلة تسمى (( بان فلوت ))  ال (( Pan Flute )) ، وهي آلة موسيقية نفخية تتكون من أنابيب متعددة مختلفة الأطوال ، من عائلة (( الشُبابة )) او (( المِجوز )) او (( المَقرون )) الذي كان يحترف العزف عليه إبن عمي المرحوم / محمد ذياب سالم الملاحمه  ، وهذه المقطوعة الموسيقية العظيمة الفريدة إسمها (( الراعي الوحيد : The lonely Shepherd )) ، والراعي المقصود هو راعي الأغنام وليس الإبل ، لأن الفرق في المهمات بينهما كبير ، فراعي الإبل مهمته أقسى وأشد ، وغيابه عن ناسه يطول ربما لشهور . ولتأكيد صحة ذلك أسرد قصة حدثت مع والدي رحمة الله عليه : كان ينتظر راعي أغنامه في الصحراء ، عند بئر ماء ، حيث أحضر له زوادته المكونة من الخبز ، والطحين ، والبندورة ، والحلاوة ، والتمر ، ولوازم الشاي ، وبينما والدي يحضّر الشاي للراعي قبل وصوله ، شاهد راعي إبل ، فنادى عليه ، وطلب منه الحضور ليتغدى ، وعندما حضر أعطاه والدي خبزاً وحلاوة وحبات من البندورة ، تفاجأ راعي الإبل وقال لوالدي ان له شهراً او يزيد  مع إبله في الصحراء ويعيش على حليبها ولم يأكل الخبز ، فتناول الخبز ، ومضغ لقمة ، فلم يستطع بلعها ، وأغلقت مجرى تنفسه ، مما إضطر والدي لضربه بقوة بين كتفيه ، فخرجت اللقمة مخلوطة بدم بلعومه . 

مقطوعة حزائنية حنونه تُعبِّر عن مشاعر رقيقة ، جياشة ، تحس بالنغمات تتدرج كما تدرج الهواء من مرحلة النسيم العليل الى الرياح العاصفة العاتية ، او تشبه تدرُّج البحر من سكونه الى هيجانه ، او مثل سيمفونية الحرب السابعة الى بيتهوفن . تحس ان أنفاسه أثناء العزف تستعطفك ان تُعينه على وحدته .  ما أجمل الموسيقى ، انها مُهذِّبة النفوس ، ومُهدئة الخواطر ، وجالية الهَمّْ ، ومُخففةُ الغَمّْ ، ومُهيّجة المشاعر ، لكنها في عمومها تُهديء  من روع ، وروح سامعها . العزف مهنة إنسانية نبيلة ، راقية ، صعبة ، لا بل معقدة ، وكأن من يُتقن العزف تكتنف روحه أنفاساً ملائكية ، أراها إلهاماً كما  موهِبة الشِعر . حاولت جاهداً في صباي المبكر ان أُتقن العزف على الربابة ، كما يُتقنها إبن عمي ورفيق عمري / خلف عبدالرحمن مسلم الملاحمه ، لكنني فشلت فشلاً ذريعاً مُريعاً .

كنت ، وما زلت ،  أتساءل مُستغرباً ومُنشدها : كيف للإنسان ان يطوِّع آلة صماء ، ويتوحد معها ويسخرها  لينتج عن هذا التناغم عزفاً إنسانياً راقياً !؟ كيف له ان يدعها تنطق بما يود ويشاء وهي راضية مستسلمة وودوة !؟ 

مِهنة الراعي مهنة عظيمة . فالراعي وحيداً يجوب الفيافي والقِفار ، والسهول والوديان ، و (( يتشعبط )) الجبال منفرداً هو وأغنامه لِيُحسِّن رعيها . والرعية تعود للراعي ، وتعتمد عليه ، ويتحمّل أمانة مسؤوليتها منفرداً في الدنيا والآخرة . الراعي معطاء ، حنون ، يأنس بشياهه في وحدته وبُعده عن الناس . الراعي يفترض ان يكون أميناً ، ومؤتمناً  ، يوظِّف كل قدراته وإمكاناته لرعاية قطيعة ليتغذى جيداً ، وينتقي له مكان الرعي ، حسب توفر العشب ، ونوعيته أيضاً مهمة جداً . فمثلاً في قريتي زحوم في الكرك ، عندما كان يمتلك أهلها ألآلاف من رؤوس الأغنام والماعز ، لدرجة انها عندما تَنشُر ( أي تنتشر ) في الصباح ، كانت القطعان تُغطي كل الجبال المحيطة في القرية من كافة الإتجاهات . ولأوضح لمن لا يعرف الفرق في مكان الرعي ، كنا نعرف ونحن صغار إذا الراعي رعى الغنم في الجهة الغربية من القرية أي في (( فج الثنية )) ، فان رائحة نَفَس الغنم وطعم الحليب مصطبغ برائحة نبتة (( الفيته )) وهي ليست رائحة مُحببة اذا ما قورِنت في حال كان مكان الرعي شرق القرية في (( وادي الصّيَرْ )) مأخوذة من (( الصِّيره )) وهي عبارة عن سياج حجري بسيط ، حيث يكون  نَفَس الأغنام عبقاً برائحة الشيح ، والبختري وأنواعاً كثيرة من النباتات البرّية المُغذية الرائعة ، حيث يظهر طعمها جلياً في الحليب . 

الراعي مسؤول عن أغنامه أمام الله ، وأمام المالك . وللعلم هذه المهنة تصبغ شخصية من يمتهنها بالهدوء ، وطول البال ، وسِعة الصدر ، والرحمة ، والعطف ، والشفقة ، والصدق ، والأمانة ، والرأفة ، بالإضافة الى الصبر ، والجَلد ، والتقشف ، والرضى بالقليل . كما ان الراعي يكون مسؤولاً عن حماية أغنامه من أي خطر يهددها ، خاصة من اللصوص والوحوش الكاسرة . والسؤال هنا : هل كُل راعٍ في هذا الزمان يتصف بأوصاف الراعي المذكورة أعلاه !؟ 

هناك دليل أكيد قاطع على عظمة وإنسانية هذه المهنة الشاقة ان عدداً من أنبياء الله عمِلوا بها ، لا بل إمتهنوها . وهل هناك دليل أعظم من هذا على عظمة هذه المهنة النبيلة !؟ 

للعلم كل مسؤول ، صَغُر موقعه ، أو كَبُر ، وقل عدد الناس المسؤول عنهم او كَثُر ، فالمتطلبات والمواصفات والتصرفات والمهمات والمسؤوليات واحدة . لكن المحاسبة على التقصير عظيمة وتختلف ، وتتعدد ، حيث هناك مسؤولية دنيوية ، ومسؤولية أُخروية او ربانية . عن إبن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما ، قال : (( سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : كلكم راعٍ وكلكم مسؤول عن رعيته ، والأمير راعٍ ، والرجل راعٍ على أهل بيته ، والمرأة راعية على بيت زوجها وولده ، فكلكم راعٍ وكلكم مسؤول عن رعيته )) .

مواضيع قد تعجبك