لم يعد الجدل الموسمي حول تحريم عيد الميلاد في الأردن مجرد خلاف فقهي عابر، ولا يمكن الاستمرار في التعامل معه بوصفه رأيا دينيًا محترمًا يطفو ثم يختفي. فما شهدناه خلال الأيام الماضية مع تصاعد أصوات تحريمية بشكل علني ومنظم، يكشف عن نمط مقلق كاستخدام الدين كرافعة سياسية لإعادة هندسة الوعي الوطني، وخلق حالة توتر داخلي تمس جوهر الدولة الأردنية.
إن هذه الخطابات لا تطلق في فراغ، ولا تأتي بمعزل عن سياق إقليمي مضطرب، تتراجع فيه الدولة الوطنية لصالح مشاريع أيديولوجية عابرة للحدود ترى في الهويات الدينية أداة تعبئة بديلة عن المواطنة. وحين تستدعى هذه اللغة إلى الداخل الأردني، فإنها لا تستهدف المسيحيين وحدهم، بل تستهدف فكرة الأردن نفسها كدولة مؤسسات. فالخطير من هذه الدعوات أنها لا تقول صراحة إنها ضد الدولة، لكنها تعمل على تفريغ مفهوم المواطنة من مضمونه. فهي تعيد تعريف الانتماء بوصفه انتماءً دينيًا قبل أن يكون وطنيًا، وتقدم الفتوى على القانون، والهوية العقدية على الهوية الدستورية. وهذا في جوهره مشروع سياسي لا ديني.
وليس سرًا أن بعض هذه الأصوات ترتبط فكريًا وتنظيميًا بأجندات ترى في الأردن كيانًا مؤقتًا أو دولة وظيفية، وتتعامل مع المجتمع الأردني كساحة اختبار لصراعات أوسع، لا ككيان سيادي مستقر. وعليه، فإن استهداف العيش المشترك ليس عرضًا جانبيًا، بل مدخلًا مقصودًا لزعزعة الداخل عبر كسر الثقة بين مكوناته، ولفتح الباب أمام الاستقطاب الطائفي.
إن تحريم العيد في هذا السياق، ليس سوى رأس جبل الجليد. فالرسالة الضمنية التي تبث إلى المجتمع تقول: “إن هذا الوطن ليس لكم والمواطنة مشروطة بالعقيدة والأغلبية تملك حق تعريف الوطنية”. وهي رسالة لو تركت دون مواجهة، فإنها تنتج مجتمع خوف لا مجتمع دولة.
فالأردن تاريخيًا أفشل مثل هذه المشاريع لا بالقمع، بل بترسيخ هوية وطنية عاقلة لم تجعل من الدين ساحة صراع ولا من التعدد تهديدًا. فالمسيحي الأردني لم يكن يومًا خارج الدولة، بل في صلبها كما لم يطلب من المسلم الأردني أن يتنازل عن إيمانه كي يكون مواطنًا كامل - الدسم - الحقوق.
إن الدفاع عن عيد الميلاد اليوم هو دفاع عن حدود الدولة السياسية وحدود الدين. فالدين حين يستعمل لتقسيم الأردنيين يفقد وظيفته الأخلاقية، كما السياسة حين تختبئ خلف الفتوى تفقد شرعيتها الوطنية. فلا يمكن القبول بأن يتحول الفضاء العام إلى منصة تخوين ناعم يغلف بلغة التحريم والغيرة على العقيدة. وهنا يجب علينا أن نطرح السؤال الوطني والحقيقي: هل نسمح بجر الأردن إلى مربعات استقطاب لم نعرفها تاريخيًا؟
هل نقبل بتحويل أعياد مواطنينا إلى مناسبة للتحريض بدل الفرح؟
وهل ندرك أن اللعب على الوتر الديني هو أسرع طريق لهدم فكرة الدولة من الداخل؟
في الأردن لا يحتاج التعايش إلى فتاوى تجيزه لأنه ليس منة من أحد على أحد بل حقيقة دستورية وسياسية. ومن يظن أن إثارة التوتر باسم الدين ستمنحه شرعية شعبية، عليه أن يدرك أن الأردنيين بتجربتهم التاريخية أكثر وعيًا من أن يستدرجوا إلى صراعات لا تشبههم ولا تخدم دولتهم.




