لم تعد النظافة العامة مسألة شكلية أو ترفًا حضاريًا، بل أصبحت عنوانًا مباشرًا لوعي المجتمعات وقدرتها على حماية صحتها وبيئتها ومستقبلها. فالشوارع التي تغرق في النفايات لا تعكس فقط خللًا في الخدمات، بل تكشف قبل ذلك خللًا في السلوك والمسؤولية الجماعية.
إن الإلقاء العشوائي للنفايات سلوك مرفوض أخلاقيًا وحضاريًا، لأنه اعتداء صريح على الفضاء العام الذي يشترك فيه الجميع. فالشارع ليس ملكًا لأحد بعينه، لكنه في الوقت ذاته مسؤولية الجميع دون استثناء. ومن هنا، فإن ترك هذه الممارسات دون ردع أو معالجة جذرية يعني القبول بتشويه المدن والإضرار بالصحة العامة وتكريس ثقافة اللامبالاة.
وفي هذا السياق، تأتي الجهود الحكومية الأخيرة لتؤكد أن مواجهة هذه الظاهرة لم تعد خيارًا مؤجلًا، بل أولوية وطنية تتطلب عملاً مؤسسيًا متكاملًا، يجمع بين إنفاذ القانون، واستدامة حملات النظافة، والتوعية المجتمعية العميقة. فالقانون وحده، مهما كان صارمًا، لا يصنع سلوكًا حضاريًا دائمًا، كما أن التوعية دون رقابة تفقد أثرها مع الوقت. إن المعادلة الناجحة تقوم على الجمع بين الردع والوعي، وبين المسؤولية الفردية والواجب المؤسسي.
ولا يمكن لأي برنامج تنفيذي أن ينجح ما لم يتحول المواطن من متلقٍ للتعليمات إلى شريك حقيقي في حماية المكان. فغرس ثقافة النظافة يبدأ من البيت، ويتعزز في المدرسة، ويتجذر في المسجد والكنيسة، ويترسخ عبر الإعلام، حتى يصبح رمي النفايات في الشارع فعلًا مستهجَنًا اجتماعيًا قبل أن يكون مخالفة قانونية.
كما أن دور البلديات والمؤسسات المعنية لا ينبغي أن يكون موسميًا أو مرتبطًا بحملات مؤقتة، بل جهدًا مستمرًا يعتمد على المتابعة، والرقابة الميدانية، واستخدام التقنيات الحديثة مثل الرقابة الإلكترونية، لضمان الالتزام والتعامل الحازم مع المخالفات، خاصة ما يتعلق بمخلّفات البناء والإنشاءات التي تشوّه المشهد العام وتلحق أضرارًا بيئية جسيمة.
إن النظافة ليست مسؤولية عامل النظافة وحده، بل هي مرآة أخلاق المجتمع ودليل احترامه لنفسه قبل أن تكون خدمة تُقدَّم له. وعندما ندرك أن رمي النفايات في الشارع هو إضرار مباشر بنا وبأبنائنا، سننتقل من مرحلة الشكوى إلى مرحلة الفعل.
وفي نهاية المطاف نحن اليوم أمام فرصة حقيقية لإطلاق ثورة وعي شاملة، تعيد للنظافة مكانتها كقيمة وطنية وسلوك يومي. فشوارعنا تستحق أن تكون نظيفة، لا لأن القانون يفرض ذلك، بل لأننا نؤمن أن الوطن يبدأ من رصيف نظيف، و مواطن يعي دوره داخل فضاء مدينته ويكون دوره مكمل لعمل المؤسسات المعنية الرسمية وليس عبئا عليها .




