*
الاثنين: 15 ديسمبر 2025
  • 14 ديسمبر 2025
  • 08:14
عندما تجمع الطبيعه الناس
الكاتب: أية محمد الطواهيه

منذ القدم كان الشتاء فصلًا ينتظره الناس بالأشهر. ليس لأنه أكثر الفصول قسوة فقط، بل لأنه يحمل معنى يتجاوز البرد والظلام؛ معنى يرتبط بالخير، بالرزق، وباللحظة التي تستعيد فيها الأرض قدرتها على التنفس. ولهذا، حين تتأخر علاماته، يشعر الجميع بقلق غير معلَن، كأن فصلًا من فصول الحياة غاب عن موعده، وكأن رزقًا تأخر عن الحضور. لم يكن الشتاء يومًا فصلًا عابرًا، بل موسمًا تنتظره القلوب قبل الحقول.

وفي البيوت، تشتد قيمته أكثر. لا شيء يعادل دفء المنزل حين يبدأ الشتاء. تجتمع العائلة في مكان واحد، لا لأن اليوم طويل، بل لأن الجو يدفعهم إلى التقارب. تتحول الغرفة الواحدة إلى مساحة مشتركة: حديث عابر، ضحكة خفيفة، أيدٍ تقترب من بعضها فوق طاولة صغيرة. هذا الجو لا يصنعه أي فصل آخر. في الشتاء، يصبح البيت بيتًا بمعناه الكامل، ويعود الشعور القديم بالسكينة الذي يختفي طوال العام.

ولأن الشتاء نعمة، فهو كذلك نقمة على البعض. هناك من يراه موسم رزق حقيقي: المزارعون، أصحاب الأراضي، من يعتمدون على هذا الفصل لتحريك حياتهم. وهناك من يُرهقه هذا الفصل: منازل غير مجهزة، أعمال تتوقف، طرق تزداد صعوبة. ورغم هذا التناقض، يبقى الشعور العام واحدًا: أن الشتاء ضرورة، وأن غيابه يربك الناس أكثر مما يربكهم حضوره.

ومع مرور التاريخ، لم يتغير هذا الموقف كثيرًا. كان الناس ينتظرون الشتاء كما ينتظرون موسمًا من مواسم الخير. فالمياه تعني حياة، وتعني مخزونًا للعام كله، وتعني دورة طبيعية تحفظ للأرض خصوبتها وللناس طمأنينتهم. ولذلك، تأخّر الشتاء كان دائمًا يخلق موجة توتر اجتماعي؛ فالناس يرتبطون بهذا الفصل ليس بالعادات فقط، بل بمعيشتهم، بخططهم، بأرزاقهم، وبأمانهم النفسي.

اقتصاديًا، الشتاء فصل مفتاحي. تتحرك الأسواق على إيقاعه، تتغير أسعار الأغذية، وتُعاد حسابات المزارع والمتاجر، وتبدأ دورة جديدة تعتمد على ما يحمله هذا الموسم من غيث. كثير من القطاعات تنتعش به، وكثير منها يتعطل أيضًا. هو فصل يفرض ميزانه على الجميع بلا استثناء، ويجعل الناس يتعاملون معه بجدية أكبر مما يتعاملون مع غيره.

اجتماعيًا، الشتاء يخلق بيئة مختلفة. الناس يميلون للتجمع أكثر، وتظهر بينهم روح المودة والقرابة، كأن الشتاء يوقظ في المجتمع إحساسًا جماعيًا لا يظهر بسهولة في الفصول الأخرى. هو فصل يشعر فيه الفرد بأنه جزء من جماعة..

ومع كل ذلك، يبقى الجانب الإنساني هو الأعمق. الشتاء ليس مجرد فصل تغير فيه الملابس وتزداد فيه الحذر، بل فصل يعيد صياغة المزاج الداخلي للإنسان. يجعله يميل للتقارب، للتأمل، للمراجعة، ولإعادة ترتيب نفسه. هناك لحظات شتوية قليلة الكلمات، لكنها تبقى أطول في الذاكرة من أشهر كاملة. لحظة اجتماع العائلة حول طاولة واحدة، لحظة دفء يسرّب طمأنينة لا تُقال، لحظة شعور بأن الحياة مهما صعُبت ما زالت تحمل مساحات أمان صغيرة لا تُقدَّر بثمن.

ولهذا، حين يتأخر الشتاء، يشعر الناس بأن شيئًا مهمًا غاب. ليس لأنهم يحبون البرد، بل لأنهم يعرفون أن هذا الفصل يحمل رسائل أكبر: رحمة تنزل على الأرض، خير ينعش النفوس قبل المزروعات، موسم يعيد العالم إلى توازنه الطبيعي. وعندما يصل أخيرًا، ولو متأخرًا، يعود معه شعور بالارتياح العام، كأن دورة الحياة اكتملت، وكأن الطبيعة استعادت صوتها الذي يعرفه الجميع

.

مواضيع قد تعجبك