*
الاحد: 14 ديسمبر 2025
  • 09 ديسمبر 2025
  • 08:57
بين الشبكة والخلية لماذا تنتصر ممالك الحكمة على جمهوريات الخوف
الكاتب: عماد داود

خبرني - في عالمٍ ينهض كل يوم على سؤال ويهبط على آخر، يمكن للطبيعة وحدها أن تفضح سرّ السياسة أكثر مما يفضحها الكلام. يكفي أن تنظر إلى العنكبوت في الصباح الباكر وهي تعيد شدّ خيوطها المرتعشة، كي تفهم كيف تُبنى بعض الأنظمة في عالمنا العربي، ويكفي أن تراقب خلية النحل وهي تفتح أبواب يوم جديد كي تدرك لماذا تبقى دول وتنهار أخرى. فالعنكبوت لا يعرف من الوجود إلا شبكة، ولا يفهم القوة إلا بوصفها فخًا، ولا يرى العالم إلا بوصفه مساحة لاصطياد الضعفاء. كل خيط في شبكته يشبه خطابًا سياسيا مضخمًا بلا مضمون، وكل اهتزاز في الزاوية يفضح هشاشته مهما لمع تحت ضوء الشمس.
هكذا تبدو جمهوريات الخوف: هياكل تبني شرعيتها من الذعر، وتعيش على الادعاء أكثر مما تعيش على المؤسسات. أنظمة ترفع صوت الثورة لكنها تحكم بمنطق الثأر، تتحدث باسم الشعب لكنها لا تتحمل أن يتنفس الشعب خارج الخيط، وتظل طوال عمرها مثل تلك المخلوقات التي لا تعرف هل تحمي نفسها أم تفترس الآخرين. جمهوريات تقول إنها جمهورية او جماهيرية، لكنها حين تُختبر، تنكشف كشبكات ضعيفة تديرها مافيات صغيرة أكبر من الدولة نفسها. جمهوريات تعيش لا لأنها قوية، بل لأن أحدا لم يقترب منها بما يكفي ليكتشف أنها هشة، وأن لمعانها مجرد صدى للضوء لا صدى للواقع!
وعلى الجهة الأخرى من الصورة نفسها، يطل عالم النحل كأنه الإجابة الهادئة التي تتجاوز الصخب. لا شبكة هنا بل خلية، ولا فخ هنا بل هندسة، ولا افتراس هنا بل رعاية. النحل لا يخاف من اليوم التالي لأنه جزء من منظومة أثبتت نفسها بالعمل لا بالصوت. لا يحتاج إلى تبرير وجوده، لأنه يحول الفوضى إلى نظام، والرحيق المتطاير إلى غذاء، والاختلاف إلى تناغم. إنه نموذج سياسي كامل دون أن يقصد، نموذج يقول إن الاستقرار ليس قوة يحتكرها الحاكم بل هدية يوزعها على الجميع. وإن السلطة، حين تكون أخلاقا قبل أن تكون أمرا، تصبح قادرة على البقاء مهما اشتدت العواصف.
وهنا تكتسب المقارنة بين رذائل العنكبوت وفضائل النحل معنى يتجاوز الأخلاق إلى السياسة. فالرذيلة ليست في الافتراس وحده، بل في غياب الفكرة. والفضيلة ليست في الطيبة وحدها، بل في امتلاك القدرة على جعل القوة وسيلة للبقاء الأخلاقي لا للبقاء الوحشي. السياسة، كما تقول الطبيعة، ليست سؤالا عن من يحكم، بل عن كيف يحكم. ليست عن السلطة، بل عن معنى السلطة. ليست عن الخيط، بل عن البيت.
وفي قلب الشرق الأوسط، حيث تسقط أنظمة وتقوم أخرى، يظهر نموذج يستحق الوقوف عنده طويلا: الأردن الهاشمي. مملكة لم تبن نفسها على صراخ، ولا على رعب، ولا على هندسة الخوف، بل على مشروع طويل النفس استطاع أن يحول الشرعية من خطاب إلى سيرة، ومن خيط إلى جذع، ومن شبكة إلى خلية. دولة لم تدخل في معركة بقاء مع شعبها، بل دخلت في حوار بقاء معه. نظام ملكي اكتشف مبكرًا أن الاستقرار ليس في القبضة، بل في التوازن؛ وأن القوة ليست في الاستعراض، بل في القدرة على توزيع الطمأنينة؛ وأن الشرعية، في منطقتنا، لا تُصنع من الدم وحده، بل من التاريخ المشترك والوعي المتبادل.
وهذا ما يجعل الأردن، رغم العواصف التي تضرب الإقليم من كل الجهات، نموذجا عصيًا على التفسير التقليدي. كيف بقي بينما انهارت حوله جمهوريات كانت تصرخ أنها أصلب من الحديد؟ وكيف ثبت بينما كانت دول أكبر منه تتهاوى كأوراق شجر؟ الإجابة ليست لغزا، بل بديهية طبيعية: لأن الخلية تبقى حين تسقط الشبكة، ولأن من يبني بيته على المعنى لا يحتاج أن يصرخ كي يسمعه الناس.
الدول التي تُحكم بمنطق العنكبوت تنسج الخوف فتسقط فيه. والدول التي تُدار بمنطق النحل والنمل تبني على الثقة فتنهض بها. الأولى تخاف من المستقبل لأنه قادم، والثانية تستعد له لأنه حق. الأولى تصنع الفراغ، والثانية تصنع الفكرة. الأولى تلتهم المجتمع، والثانية تحتضنه. وما بينهما شعوب تقف حائرة أمام السؤال الأبدي: أيهما أصلح للحياة؟ البيت أم الفخ؟ الجذع أم الخيط؟ الخليّة أم الشبكة؟
ومع كل دورة في التاريخ، يبدو الجواب أوضح من أي وقت مضى: لا مستقبل للعناكب مهما كثرت شبكاتها، ولا عمر طويل لجمهوريات الخوف مهما علا صوتها. البقاء، في النهاية، قاعدة أخلاقية قبل أن يكون قاعدة سياسية. والحكمة التي تبني خلية واحدة أقوى وأطول نفسا من ألف شبكة تحكم بالقوة وتعيش على الغريزة. فممالك الحكمة تنتصر لأنها تفهم الناس، وجمهوريات الخوف تنهار لأنها تخاف منهم.
وهكذا، من فوق خيوط العنكبوت ومن تحت أجنحة النحل، يبدو العالم كأنه درس واحد في شكلين مختلفين: هناك دول تعيش لأنها تصطاد، ودول تعيش لأنها تبني. الأولى تقفز من فوضى إلى فوضى، والثانية تتقدم من معنى إلى معنى. وفي النهاية، لا يشفع للعنكبوت لمعان خيطه حين يتلاشى. ما يبقى هو الخلية، وما يسقط هو الشبكة، وما يصنع الفرق ليس عدد الأرجل، بل مقدار الحكمة.
 

مواضيع قد تعجبك