خبرني - تفرض النقاشات الدائرة حول التعديلات المرتقبة على قانون الإدارة المحلية سؤالاً لا يمكن تجاهله أو القفز عنه: هل نحن أمام مشروع إصلاح تشريعي حقيقي، أم أمام هندسة سياسية تهدف إلى إعادة تشكيل المشهد العام بطريقة تُقصي طرفاً وتسترضي آخر؟
إنّ حساسية هذا القانون ومكانته في بنية الإدارة المحلية تضعه في صميم النقاش الوطني، وتستدعي يقظة شعبية وفكراً نقدياً مسؤولاً، لا قبولاً صامتاً يمرّ عبر إجراءات بروتوكولية.
فالبلديات ومجالس المحافظات لم تُنشأ لتكون امتداداً للسلطة التنفيذية، ولا أدوات تتغيّر بتغيّر الوزراء، بل وُجدت لتكون مؤسسات أهلية منتخبة تمثّل الناس في أدق تفاصيل حياتهم اليومية. وأي محاولة لسحبها من يد المواطن إلى يد المعيّن، أو إعادة تعريف دورها بما يُضعف تمثيلها الشعبي، هو تراجع عن فلسفة اللامركزية وخروج عن روح الدستور الذي أجمع عليه الأردنيون.
وليس خافياً أنّ بعض الطروحات تتحدث عن تعيين رؤساء البلديات بدلاً من انتخابهم استناداً إلى استطلاعات رأي ظرفية. غير أنّ أزمة الثقة التي يعكسها العزوف عن المشاركة ليست مبرراً لإلغاء حق أصيل، بل دعوة للحكومات كي تعيد بناء جسور الثقة بالعمل والأداء والنزاهة، لا بإغلاق الباب أمام صناديق الاقتراع. فالمواطن لا يُلام حين يمنح صوته لتيار سياسي معيّن، بل يُلام من عجز عن تقديم بديل جدير بثقة الناس.
وإذا كان الهدف من تعديل القانون هو إقصاء طرف سياسي بعينه، فهذه ليست حكمة سياسية، بل اعتراف ضمني بفشل الحكومات في إقناع الناس ببرامجها وممثليها. فالتشريع ليس أداة لمعالجة العجز السياسي، ولا وسيلة لتصحيح مسار حزبي، بل هو حقّ للمواطن ودولة القانون على حدّ سواء. وتقليص المشاركة أو تقييد خيارات الناس لن يصنع استقراراً، بل يضيف إلى الساحة فراغاً سياسياً وإحباطاً عاماً ينعكس في نسب المشاركة التي تتراجع دورة بعد أخرى.
إنّ من حقّ الشعب أن يطّلع على كل مسودة، وكل مادة، وكل تعديل. ومن واجب الدولة أن تُشرك المجتمع المدني، والنقابات، والجامعات، والبلديات السابقة، والخبراء، في نقاشٍ وطني مفتوح قبل أن يُرفع القانون إلى المجلس. فالتشريعات الكبرى لا تُصنع في غرف مغلقة ولا تُمرّر بإيقاعٍ إداري سريع، لأنها ببساطة تُشكّل مستقبل المدن، ونوعية الخدمات، ومكانة المواطن في القرار المحلي.
ولن تنهض الإدارة المحلية بقانون يُفصَّل على مقاس الظرف السياسي أو على هواجس الخشية من تيار معيّن، بل بقانون يطمئن الناس إلى أن أصواتهم مصونة، وأن ممثليهم منتخبون بإرادتهم لا بإرادة المكاتب. وإنّ من يريد ثقة المواطنين فليذهب إليهم بالعمل الجاد، وبالكفاءة والنزاهة، لا بتعديل قانوني يُقصي الآخرين أو يضيّق عليهم.
إنّ الأردن اليوم أمام منعطف تشريعي حساس
إما إصلاح حقيقي يعيد الاعتبار للمشاركة الشعبية،
وإما هندسة سياسية تُضعف الديمقراطية من حيث تبدو أنها تعالجها.
وإنّ أحوج ما نحتاج إليه هو قانون يرسّخ اللامركزية لا يلغيها، ويُعيد للمواطن ثقته لا ينتزعها، ويمنح البلديات ومجالس المحافظات قوة تمثيلية حقيقية تجعلها شريكاً في التنمية، لا تابعة لإرادة الوزير المتغيّرة.
إنّ القانون ليس أداة لإقصاء تيار، بل مرآة لعدالة الدولة ورشدها. والشعوب التي تُقصى أطرافها لا تبني ديمقراطية، بل تبني مسرحاً سياسياً هشّاً سرعان ما يتآكل.
ومن أراد أن يكتب صفحة جديدة في مسار الإصلاح فلا يبدأها بإغلاق الأبواب، بل بفتحها على مصراعيها للناس… كلّ الناس.
فمستقبل الإدارة المحلية لا يُصنع بالنيات، بل بالتشريعات التي تحترم العقل الشعبي وتُعيد إليه دوره الطبيعي في صناعة القرار.
وإنّ الوطن الذي يؤمن بالمشاركة الحقيقية لن يخشى تعدد الآراء، بل سيحتفي بها لأنها مصدر قوته لا مصدر تهديده.
وقانون الإدارة المحلية—إن أُريد له أن يكون إصلاحاً لا هندسة—يجب أن يعود إلى الشعب، فهو صاحبه الأول والأخير..




