*
الاحد: 28 ديسمبر 2025
  • 03 ديسمبر 2025
  • 12:14
تيك توك والشتاء الأردني عندما تتحوّل الفيروسات إلى ترند
الكاتب: عماد داود

عماد داود

شتاؤنا لم يعد يحمل رائحة المطر بل نُدَبَ الموت. موت يُباع في مجموعات فيسبوك المغلقة حيث الشهادات الطبية تُؤجَّر كما تؤجَّر غرف البغاء.. وموت يُنشر على منصات تيك توك حيث يتحول الجهل إلى سلعة تباع بالمزاد العلني، بوصفنا شعوب تتصرف وكأن الصحة ضرب من الرفاهية لا ضرب من السيادة.

في الظل تعقد الصفقات: طبيب يساوم على ضميره، صيدلي يوقع على روحه، مستثمر يتاجر بأنفاس الناس. اسم طبي يُشترى بثمن بخس ليغطي جريمة منظَّمة. لكن الجريمة الأكبر تحدث في العلن: ملايين المتابعين لمشاهير لا يعرفون الفرق بين الفيروس والبكتيريا، ينشرون الوصفات كما ينشرون النكات. أصبحنا نعيش في عالم حيث يُحاسب البقال إذا باع بيضة فاسدة، لكن لا يُحاسب "الإنفلونسر" إذا نشر وصفة قاتلة.

الصين بعقلها البارد فهمت المعادلة: الصحة حرب وجودية. أما نحن فلا نزال نرقص على حافة الهاون. نمنع غير المتخصص من فتح عيادة ثم نمنحه ملايين المتابعين ليفتح عيادة رقمية أوسع وأخطر. نطالب بتقنين مهنة الطب ثم نترك سوق النصائح الطبية مفتوحاً لكل دخيل.

هذه ليست أزمة تشريعات بل أزمة وجود. نحن أمة تبيع أطباءها الفقراء وتشتري جهلها الغالي. نحن شعب يستقبل الموت من بوابتين: باب العيادة الوهمية المرخصة باسم مُؤجَّر، وباب الشاشة الذكية التي تبيع الوهم مُعلَّباً.

القاتل لم يعد يحمل سكيناً بل يحمل شهادة مُؤجرة أو حساباً وهمياً. والضحية لم تعد تفقد حياتها فقط بل تفقد إيمانها بوطن كان يفترض أن يحميه!

لن تنتهي المأساة بوعظ أو مناشدات. المأساة تنتهي حين تتحول الشهادة الطبية من سلعة في سوق السوداء إلى سلاح في حرب السيادة. وتنتهي حين تصبح منصة التواصل مثل غرفة العمليات: لا يدخلها إلا من يحمل مؤهلاً ويكون مستعداً لتحمل تبعات كل كلمة.

نحن لا نحتاج إلى مزيد من الندوات بل إلى إعادة تعريف الوطن: وطن لا يبيع شهاداته، ولا يستأجر جهله، ولا يقبل بأن تكون صحة مواطنيه سوقاً ليتاجر فيها المتسلقون والمحتالون

فالأوطان لا تموت بالحروب وحدها.. بل تموت حين تتحول صحة أبنائها إلى تجارة، وعقولهم إلى ساحة لعب. وهذا الموت أشدّ قسوة.. لأنه موت مع سبق الإصرار والترصد!

 

مواضيع قد تعجبك