في صباحٍ باهت من أيام المدينة الخرساء، كانت الشمس تتكئ على أسطح الإسمنت كأنها سيدة أنهكها التكرار. وجدت نفسي أمام فيلسوفٍ من نوعٍ لم تمنحه الأكاديميات لقباً، كلب ضال جلس على هامش العالم كمن يحتج بصمته على اضطراب الخلق لا على خالقهم.
نظراته كانت تشبه مرآة تكشف أكثر مما تعكس، وفيها حزن الحكمة وضحك السخرية، كأنها تترجم تاريخاً من الفهم العميق والخذلان الطويل.
سألته كمن يسأل ضميره:
ـ أأنت ضال؟
ضحك ضحكة قصيرة كأنها صفعة على وجه السؤال، وقال:
ـ الضياع ليس مكاناً، بل حالة. أنتم التائهون في الخرائط التي نسجتموها بأيديكم، تكتبون العناوين لتخفوا عن أنفسكم حقيقة أنكم لا تعرفون إلى أين تذهبون!، أنتم من اخترعتم الـ GPS لأن بوصلة أرواحكم تعطلت !
كان صوته بسيطاً وعميقاً كأنه قادم من زمنٍ لم تُخترع فيه الأقنعة بعد. وصراحة؛ ذهلت وصعقت وتساءلت: من أين يأتي بالفصاحة كلها وأنا الذي طالما تاه على فمي التعبير؟
عندها أدركت أن الحكمة كثيراً ما تسكن في الكائنات التي لم تتعلم الكذب.
لطالما تعاملنا مع الكلاب الضالة كملف إداري لا ككائن حيّ.
الحكومات تضع برامج: الالتقاط والتعقيم والإعادة، كأنها تعالج المرض، بينما هي في الحقيقة تُخدّر الضمير.
نعقم الجسد ونترك الروح تنزف.
نضع الشريحة الإلكترونية وننسى أننا نحن من يحتاج إلى التتبع.
نحصن الكلاب من أمراضها، بينما تتفشى أمراضنا في صمت أنيق!
في مراكز الإيواء، تجري أهدأ عمليات الإعدام في التاريخ.
نحوّل الكلب من كائن حر إلى رقمٍ في سجل، من عواءٍ إلى بيانات منظمة.
نقتل البرية داخل الجسد، ونقتلعها من أحشاءه، ونعيده إلى الشارع ذاته، مخلوقاً بلا شغف، مجرد جسدٍ مؤدب يسير في فوضى منظمة.
إنها جريمةٌ تُرتكب باسم الرحمة، كما تُرتكب أعظم الجرائم باسم النظام.
المفارقة أننا نتعامل مع الكلاب بالعقلية ذاتها التي شوهت إنسانيتنا.
نفرض عليها نظاماً من اللوائح كما فرضناه على أرواحنا، نحول الفوضى إلى جريمة، والغرائز إلى عيب، والعواء إلى مخالفة سلوكية.
نعيد إنتاج الوجود نفسه في نسخةٍ معقمة بلا روح.
لقد صنعنا للكلاب عالماً يشبهنا كثيراً: أنيقاً من الخارج، فارغاً من الداخل.
هكذا تتحول الحرية إلى مشروعٍ إداري، والعواء إلى صوت منخفض مسموح به ضمن ساعات العمل، والوفاء إلى بندٍ في اتفاقية سلوك حضاري!
نحن نعلمها النظام بينما نغرق نحن في الفوضى المقنّعة!
في عيون الكلاب المعقمة نرى صورتنا الحقيقية: بشرٌ فقدوا القدرة على العواء!
نخاف أن نصرخ فنبدو مجانين، نخاف أن نحلم فيعاقبنا الواقع!
نراقب عملية التعقيم وكأنها طقس خلاص، بينما أرواحنا هي التي تحتاج إلى التطهير!
نظن أننا نعيد النظام إلى الشوارع، بينما نعيد الفوضى إلى أرواحنا!
لم نعد نعيد الكلاب إلى الشوارع، بل نعيد الشوارع إلى الكلاب!
شوارع نظيفة، صامتة، بلا حياة!
لقد حولنا البرية إلى مكتب، والحرية إلى استمارة، والحياة إلى أرشيف!
كل شيء أصبح مؤطراً، مرخصاً، مقيداً!
حتى الصباح صار يوقّع حضوره عند بوابة المدينة!
القضية لم تعد قضية كلاب، بل قضية إنسان يخاف أن يحيا!
إنها قصة حضارة عقمت الفوضى باسم التقدم، وخدّرت الألم باسم الراحة، ودفنت المعنى تحت تلال من الإجراءات!
صرنا نعيش كمن يعتذر عن وجوده، نتحرك ضمن هوامش مرسومة بدقة، نبحث عن الأمان في أقفاص ذهبية!
الكلاب التي نحاول إصلاحها ما زالت تعرف ما هو الصدق!
تعوي لأنها تشعر، تهرب لأنها حرة، تجوع لأنها ترفض الترويض!
أما نحن فنتغذى على الخوف ونسمّيه وعياً، نصمت خوفاً من الخطأ ونسمّيه نضجاً، نرتدي الكمامات على أفواه أرواحنا ونظن أننا متحضرون!
ربما كان الحل الحقيقي ليس في تعقيم الكلاب، بل في تعقيم عقولنا من الخوف!
ربما يجب أن نتعلم منها كيف نحيا دون إذن مسبق، كيف نحزن بلا تبرير، كيف نحلم دون تصريح!
فالحرية لا تحتاج إلى إدارة، والكرامة لا تُقاس بالنظام، والحياة لا تُدار بالتحكم، بل تُعاش بالشغف والارتباك والمجازفة!
نحن لا ننقذ الكلاب من الموت، نحن فقط نمدد موتنا نحن بطريقة أكثر أناقة!.
نضع لها اللوائح، بينما حياتنا تفرغ من معناها!
نقنن العواء وننسى أن الحياة لا معنى لها إن لم نصرخ في وجهها أحياناً!
الضياع الحقيقي ليس أن تكون بلا بيت، بل أن تكون بلا روح!
أن تسير في درب مستقيم لا يقود إلى أي مكان!
أن تخاف من نفسك أكثر مما تخاف من المجهول!
ربما كانت الكلاب الضالة آخر الفلاسفة الأحرار في هذا الكوكب!
تعوي لأننا نسينا كيف نصرخ، وتعيش لأننا اخترنا النجاة على حساب الحياة!
إنها تذكرنا أن العواء هو اللغة الأولى للحرية، وأن الصمت الطويل ليس حكمة، بل نوع راق من الموت!
العالم لن يُشفى بتعقيم الكلاب، بل حين نتوقف نحن عن تعقيم أرواحنا!
حين نعيد للخطأ كرامته، وللخطر جماله، وللفوضى معناها!
حين نجرؤ على أن نعيش كما نحلم، لا كما يُطلب منا أن نكون!
فربما، حينها فقط،
سيعود العواء نشيداً للحياة،
وسيكتشف الإنسان أن الكلاب لم تكن ضالة أبداً...
بل كانت تهدينا الطريق!




