خبرني -
في العديد من النقاشات نسمع الجملة الشهيرة: “أنا إنسان تربوي”، تُقال وكأنها لقب رسمي أو بطاقة تعريف تمنح صاحبها الحق في الكلام والحكم والتوجيه، ولكن في حقيقة الأمر أن التربية ليست منصبًا يُمنح، ولا وظيفة تُعلّق على باب المكتب، ولا سلطة يتكئ عليها صاحب كرسي، التربية أوسع من التعريفات المتنوعة وأعمق من الألقاب المُتناثرة وأسمى من أن تُحصر في مهنة واحدة.
فالتربية هي سلوك، وموقف، وحضور، وأثر، فالأب يمارس التربية حين يُنصت قبل أن يُجاوب، والأم تربوية حين تحتوي المشاعر قبل أن تُقيّم السلوك، والمعلم تربوي عندما يوجّه بقلبٍ رحيم قبل دفتر العلامات، ووليّ الأمر تربوي حين يفتح باب التعاون لا باب الاتهام، والمدير تربوي عندما يُحسن القيادة قبل إصدار القرارات، والمشرف تربوي حين يُصلح دون أن يُحبط ويُصحّح دون أن يجرح، والمرشد تربوي حين يسمع القلق قبل أن يمنح النصيحة، والموظف تربوي حين يحترم الناس قبل المعاملات، والقائد التربوي "صاحب السلطة والمنصب" لا تكتمل تربويته إلا عندما يجعل أخلاقه أعلى من كرسيه وقراره أعدل من سلطته وموقفه أصدق من منصبه، فكل مسؤول يملك سلطة يمكنه أن يكون تربويًا وأن يستخدم قوته لحماية لا لإخافة ولخدمة لا لاستعراض ولرفع الناس لا لكسرهم.
التربية لا تحتاج إلى لقب بل إلى إنسان يعرف كيف يكون قدوة، ولا تحتاج إلى جدل بل إلى موقف أخلاقي يشبه ما نعلّمه لأبنائنا، ولا تحتاج إلى استعراض، بل إلى شراكة تحترم أن التربية مسؤولية جماعية تبدأ من البيت ولا تنتهي عند المدرسة.
وعندما نصف شخصًا بأنه “تربوي”، فنحن لا نصف وظيفته، بل نصف طريقته في التعامل مع الحياة، وبالتأكيد نصف احترامه للآخرين وحكمته في المواقف وقدرته على تهذيب كلماته قبل أن يتحدث والتزامه بأن لا يُهين لا يُحقّر ولا يرفع صوته على من يحتاج التوجيه، فالتربوي الحقيقي لا يُقاس بما يكتبه في سيرته الذاتية، بل بما يتركه من أثر في الناس، أثر يطمئن ولا يخيف، وأثر يبني ولا يهدم، وأثر يُضيف للنفوس قبل أن يُضيف للخطط.
وجميُعنا يعي تمامًا أننا في زمن تتسارع فيها الكلمة والخبر والصورة قبل القلم، فليس من الغريب أن نرى إيضًا تحديات تربوية من السوشال ميديا، فالتربية لم تعُد محصورة بالمدرسة، بل مسؤولية كل من يتعامل مع طفل أو طالب أو حتى زميل، إننا أمام جيل يراقب السلوك أكثر مما يسمع الكلام، ويقتدي بما نفعله قبل ما نقوله، وهنا تظهر قيمة التربية الحقيقية.
ومع سرعة هذه التغييرات يحتاج هذا الجيل إلى من يُمسك بيده لا من يرفع إصبعه عليه، إلى قدوة تُطمئنه لا خطاب يُربكه، وإلى كلمة صادقة تُرشده وسط طوفان المحتوى العابر، عندها يصبح “الإنسان التربوي” هُنا ميزان الاتزان، وبوصلة الأخلاق، وصوت الحكمة الذي يذكّر بأن التربية ليست ردّة فعل آنية، بل عملية بناء طويل تُصنع بالرفق والوعي والصدق.
وهكذا وبالتأكيد يصبح “الإنسان التربوي” ليس فقط من يملك الخبرة، بل من يملك الحكمة وليس من يحفظ القواعد، بل من يطبّقها وليس من يرتدي لقبًا تربويًا، بل من يعيش التربية كنمط حياة، ويُقدّم نموذجًا يمكن أن يقتدي به جيل كامل يبحث عن قدوة تشبه ما يحلم به.




