*
الجمعة: 05 ديسمبر 2025
  • 22 نوفمبر 2025
  • 12:35
الكاتب: أ. د. بسام الشخريت

خبرني - كان الرجل يمشي في بيته كما يمشي من عاش طويلاً في ممرٍّ ضيّقٍ بين الحياة وظلّها؛ يراقب الهواء قبل أن يتنفّسه، ويستمع لصدى خطواته قبل أن يخطو. لم يكن الخوفُ من خطأٍ يرتكبه، بل من امرأةٍ رأت في ذاتها شمساً لا تُناقَش، فحوَّلت الحبَّ إلى ولايةٍ مُطلَقَة، والعطاءَ إلى مَحْكَمةٍ لا تُصدِر سوى حُكمٍ واحد: أنه مُقصِّر … مهما أدَّى، ومهما احترَق ليضيء.

كانت تتلألأ بوهجٍ مصطنع، كأنها تخبِّئُ خلف لَمَعَانها هاويةً بلا قرار. وكلما اقترب منها، ابتلعته تلك الهاوية بابتسامةٍ هادئة تمارس التخريبَ بمهارةٍ لا تُجيد الحنان بقدر ما تُجيد التمثيل. صار الرجل يزِنُ كلماته بميزانٍ لا يعرف الرحمة، ويجسُّ وجوده كمن فقد خريطته فجأة؛ يطلب هدوءاً يُماطَل، ويبحث عن نفسه في بيتٍ يتكاثر فيه الضجيج غير المسموع، ضجيجٌ يشبه ارتجاف زجاجٍ شارَفَ على الانكسار.

وفي هذا الضوء المشروخ، كان الطفل ينمو على أطراف الخوف؛ ظِلٌّ صغير يتبع ظلَّ والده، يتساءل عمّا يدفع الأب إلى الصمت حين يريد الكلام، وإلى الاعتذار قبل أن يقع الخطأ. تَعلَّم باكراً أن الطفولة قد تُخنَقُ داخل مسرحٍ تُدارُ فيه المشاعر بالخيوط، وأن الأمَّ التي يُفترض أن تمنحَ الأمان قد تَسلِب الطفلَ حقّه في أن يكون نفسه، لا صورةً ملساء تُعلَّق على جدار روايتها.

كانت تَجرُّه إلى مرآتها كل صباح، تطلب منه أن يرى العالم كما تريد هي، أن يبتسم بالطريقة التي تُرضيها، وأن يبكي بالقدر الذي يخدم قصتها. ومع الأيام، صار الطفل يُخزِّن الخوف في صدره كحجرٍ رطبٍ يستقرُّ في القاع؛ لا يغرق ولا يعوم، بل يبقى ثقيلاً على قلبه.

وأما الأب، فكانت سنواته صخوراً مكدَّسة على شاطئٍ ينحت فيه الصبر نفسه. أدركَ أن صبره الذي رآه يوماً فضيلة، تحوَّل إلى سلسلةٍ تُكبِّلُه، وأن تضحيته التي افتخر بها صارت حطباً يحترق دون أن يُدفِّئ أحداً. ومع ذلك، ظل في داخله بصيص أملٍ، شرارةٌ صغيرةٌ لا تُرى لكنها لا تنطفئ، تحرس ما تبقّى من إنسانيته.

وحين وقع الطلاق، لم يكن انفصالاً عادياً، بل زلزالاً مَحَا خرائطه القديمة، وتركه واقفاً أمام مرآةٍ غريبة يرى فيها رجلاً لا يعرفه. تكسَّرَت اللغة في فمه، وتبدّد اليقين من عينيه، وبدا المستقبل كصفحةٍ بيضاء مُخيفة. لكنه، رغم الانهيار، لم يسقط. تلك الشرارة الخافتة بدأت تَتَّقِد، تُرشِدُه إلى طريقٍ لم يعبره من قبل: طريق العودة إلى ذاته، عودةٌ تشبه لملمة الضوء من بين شظايا زجاجٍ مكسور.

وبينما كان يجمع روحه كما تُجمَع حباتُ لؤلؤٍ تناثرت في عتمة الغرفة، كان ابنه يراقبه. يرى كيف يمكن لرجُلٍ متهشّم أن يعيد بناء نفسه، وكيف يكبر القلب حين يعرف أن النجاة ليست خروجاً من الألم، بل عبوراً صادقاً من خلاله.

ومع نضوج الابن، جلس أمام المُعَالِج وقال بصوتٍ يشبه حفيفَ ورقةٍ تتردد في الريح:
"أريد أن أفهم لماذا كنتُ أشعرُ دائماً بأنني مذنبٌ عمّا لم أفعله."
كانت تلك الجملة مفتاحاً فتح باباً أُغلِق عليه منذ الطفولة. انكشف أمامه الطفل الذي خَبَّأه طويلاً، والغضب الذي دفنه حفاظاً على سلامٍ لم يكن سلاماً، والذكريات التي أعادتْ أمُّه تشكيلها كأنها تنحت التاريخ بيدٍ واحدة لا تُبصر إلا ما تريد.

تعلَّم أن الحب لا يُشترى بالطاعة، وأن الذنب الذي حمله كان وزراً لم يصنعه، وأن الألم الذي ظلّ يخشاه كان صدى رعبٍ لم يخلقه قلبه.

ومع الوقت، صار الابن منارةً لنفسه. رأى والده لا كمحاربٍ هُزم، بل كمقاتلٍ أخفى سيفه كي لا يُجرَحَ طفله، واختار الصمت عبوراً به إلى برّ النجاة. أدرك أن الرجولة ليست صراخاً ولا سيطرة، بل القدرة على النجاة دون أن تفسد الروح.

غير أنّ الأم النرجسية لم تتوقف. ففي مرحلة ما بعد الطلاق، ارتدت قناع البطولة والجرح معاً، واحتكرت الرواية. سردت قصتها بإصرارٍ مدهش، تُبدِّل تفاصيلَها كما تُبدِّل الظلالُ أشكالها على جدارٍ متصدّع. جعلت نفسها بطلةً وضحية، وجعلت الأب ظلاً بلا ملامح، وحبَسَت الأطفال في سرديةٍ تلتهم ذاكرتهم رويداً رويداً؛ لم تكن تمنعهم من رؤية الحقيقة فحسب، بل كانت تمنعهم من رؤية أنفسهم.

كانت تعبث بعواطفهم تحت عباءةِ حنانٍ مُنمَّق، تُقدِّم للناسِ صورةَ الأمِّ المثالية، وتُخفي في الداخل امرأةً لا تقبل اختلافاً، ترفض أن يكون للطفل قلبٌ لا يدور في فلكها، أو ذاكرةٌ لا تمرّ عبر غربالها.

لكن الأب والابن أدركا أخيراً أن النجاة ليست معركةً ضدها؛ فمحاربة النرجسية تشبه مطاردة ظلٍّ في غرفةٍ بلا نافذة. النجاة هي منح النفس حقّ التنفُّسِ، ومنح الطفل حقَّ الاعتراف: "هذا أنا."
هي استعادة الذاكرة من براثن الحكايات المصنوعة، وتذكير الروح بأن الحب لا يُقاس بالولاء، وأن احترام الذات ليس جريمة.

وذات مساءٍ باردٍ، جلسا على شرفةٍ لم تعد ترتجف. قال الابن وهو ينظر إلى السماء التي استعادت زُرْقَتها:
"لقد نجونا … بطريقة ما."
فابتسم الأب ابتسامةً تحمل شهوات التعب ولُطْفه، كأن الضوء الذي كان غريباً أصبح أخيراً ضيفاً مألوفاً.

منذ تلك الليلة، صار يمشي بخطواتٍ مستقيمة، يرى العالم بعيونٍ لا ترتجف. فَهِمَ أنّ الإنسان لا يبني نفسه دُفعَةً واحدة، بل حجراً فوق حجر، وأن الجرح إذا وُضِع في يدِ الوعي يتحوّل إلى نافذةٍ يدخل منها الضوء.

وأما الابن، فقد خرج من ظلال المرآة، يخطو إلى حياته بلا خوفٍ يتربّص به. صار يرى ذاته كما هي: مستقلة، ناضجة، قادرة على الحب دون التماهي، وعلى الثقة دون الاستئذان.

وفَهِمَا معاً حقيقةً عميقةً:
أن النرجسيةَ ليست حرباً بين أشخاص، بل صراعاً بين الروح وظلّها.
وأن الحياة، مهما اسودّت، تحمل دائماً شقّاً صغيراً من نورٍ صامت، يكفي أن نميل إليه حتى يتّسع.

وفي ذلك النور، وُلِدَت الحكاية الجديدة:
حكاية تعافٍ يُشبهُ الندى، حبٍّ بلا مرايا، وخطواتٍ تُصنعُ من الوعي لا من الخوف.
حكايةُ روحٍ عرفت أن الألم حين يُفهم يَتحوَّلُ إلى قوة، وأن الرماد يمكن أن يكون بدايةً لنارٍ أنقى.
نارٌ تُنير، ولا تلتهم.

مواضيع قد تعجبك