*
الجمعة: 05 ديسمبر 2025
  • 22 نوفمبر 2025
  • 11:02
الكاتب: الدكتور زيد احمد المحيسن

خبرني - في زمنٍ تتسارع فيه التحوّلات التكنولوجية، وتتقاطع فيه الثقافات، وتتشظى فيه المرجعيات الأخلاقية، لم يعد التعليم ترفًا معرفيًا أو مجرد وسيلة لاجتياز الامتحانات والالتحاق بسوق العمل، بل بات مسؤولية حضارية كبرى؛ مسؤولية تُعنى قبل كل شيء ببناء الإنسان من الداخل، صياغة وجدانه، وتوجيه سلوكه، وتكوين ضميره الحي. وإذا كانت المعرفة هي الهيكل، فإن القيم هي الروح، وإذا كانت المهارات أدوات، فإن القيم هي الغاية، وهي التي تمنح الإنسان معناه وفعله وتأثيره.
إن التعليم العام، بصفته المؤسسة الأكثر شمولًا وتأثيرًا في تشكيل الأجيال، لا يمكن أن يظل أسير التلقين المجرد أو التحصيل الأكاديمي المعزول عن الحياة. فالمدرسة، بما فيها من مناهج ومعلمين وأنشطة، ليست مصنعًا للدرجات والشهادات، بل بيئة تُربى فيها العقول وتُهذّب فيها النفوس. القيم، في هذا السياق، ليست إضافة تجميلية أو ترفًا فكريًا، بل هي النسيج الخفي الذي يمنح لكل ما يُقال ويُعلَّم طعمه ومقصده. من غير القيم، يتحول التعليم إلى عملية آلية، تُنتج أفرادًا يعرفون كيف يصنعون الأشياء، لكنهم يجهلون كيف يعيشون بها، أو يعيشون من أجلها.
القيم الأخلاقية، والدينية، والوطنية، والاجتماعية، والإنسانية، والفكرية، تشكل منظومة متكاملة لا يمكن فصل بعضها عن بعض. فالصدق، مثلًا، لا ينفصل عن الأمانة، ولا الاحترام عن التسامح، ولا حب الوطن عن الإحساس بالمسؤولية تجاه المجتمع والبيئة والآخر. وغرس هذه القيم لا يأتي عبر محاضرات نظرية أو نصوص تقرأ ثم تُنسى، بل من خلال تربية تفاعلية حيّة، يشارك فيها المعلم بسلوكه قبل كلماته، والمنهاج بموضوعاته واختياراته، والإدارة بأسلوب تعاملها مع الطلبة، وحتى تفاصيل اليوم الدراسي التي تُبنى فيها المواقف وتُصنع القدوات.
ولعلّ أهم ما يميز غرس القيم في مرحلة التعليم العام هو أنه يستهدف الإنسان في أكثر لحظات تكوّنه هشاشةً وقابلية للتشكيل: الطفولة واليفاعة. في هذه المراحل، لا تزال النفس البشرية مرنة، تقبل ما يُغرس فيها، وتتشكل وفق ما يُعرَض عليها من نماذج وأفكار. فالمعلم الذي يُنصت، ويحتوي، ويحترم، يزرع من دون أن يتكلم أعمق القيم. والبيئة المدرسية التي تُعزز العدالة، وتكرّم التنوع، وتكافئ الاجتهاد، وتمنح فرصة ثانية، هي في ذاتها منهج تربوي أبلغ من أي درس.
لكن هذا المشروع لا يخلو من التحديات. فوسائل الإعلام الجديدة، وتكنولوجيا الاتصالات، وتداخل المرجعيات الثقافية، كلها تؤثر في وعي الطالب اليوم، وتُعرضه لتشويش قيمي كبير. وهنا تبرز المدرسة، ومعها الأسرة، كحائط صدّ، وكمنارة توجيه، لا بموقف المنع والرقابة فقط، بل بإقامة نموذج يُقنع ويُلهم. إن الطالب اليوم لا يحتاج إلى أن يُقال له "كن صادقًا"، بقدر ما يحتاج إلى أن يرى من يكبره وهو يُجسّد الصدق، في القول والفعل والموقف.
من هنا، فإن غاية القيم في التعليم ليست خلق جيل خاضع أو مروّض، بل جيل حرّ، يملك البصيرة قبل البصر، ويعرف أن المسؤولية ليست ما يُلقى عليه، بل ما ينهض به عن قناعة. جيلٌ لا يردّد ما يُطلب منه، بل يُفكر، ويُشكّل موقفه، ويُدرك أثره في مجتمعه ووطنه والعالم من حوله. جيلٌ ينظر إلى النجاح لا كمكافأة فردية، بل كقيمة تُستخدم لصالح الآخرين أيضًا.
إننا حين نُربّي القيم في التعليم العام، فإننا لا نُعيد فقط التوازن المفقود في العملية التعليمية، بل نؤسس لمجتمع أكثر إنسانية، وعدلًا، وتماسكًا. نُعدّ الإنسان لا ليعمل فحسب، بل ليعيش حياة ذات معنى، ويمنح غيره شيئًا من هذا المعنى. فالقيم ليست مشروعًا تربويًا فقط، بل هي استثمار طويل الأمد في السلام المجتمعي، وفي بناء الحضارة من داخل الإنسان، لا من حوله فقط.
وإذا نجح التعليم في أن يجعل من القيم ممارسة يومية، لا شعارًا مؤقتًا، فإنه يكون قد بلغ غايته الأسمى: بناء إنسان صالح، مسؤول، يافع، يمشي على الأرض بثقة، ويترك فيها أثرًا طيبًا لا يُمحى

مواضيع قد تعجبك