*
الجمعة: 05 ديسمبر 2025
  • 10 نوفمبر 2025
  • 09:17
الكاتب: الدكتور زيد أحمد المحيسن

خبرني - يروي التاريخ أن الرسّام اليوناني الشهير أبيلّيس عرض إحدى لوحاته في العلن ليرى رأي الناس فيها. اقترب منه إسكافيّ، ولاحظ خطأً في رسم النعل، فأقرّ الرسّام بملاحظته وعدّلها شاكرًا دقّته. لكن الإسكافيّ، وقد اغترّ بإصابة رأيه في تفصيلة صغيرة، تمادى في نقد اللوحة كلها، فالتفت إليه أبيلّيس قائلاً عبارته التي خلدها الزمن:
"أيها الإسكافي، لا تتجاوز حدود النعل."
كانت تلك الكلمة درسًا بليغًا في معرفة المرء بحدود علمه، واحترامه لمجال غيره. ولو كان أبيلّيس بيننا اليوم، لقالها مجددًا، ولكن ليس لإسكافيٍّ هذه المرة، بل لجموعٍ من “أبي العُريف” الذين يتحدثون في كل شيء: في السياسة والاقتصاد، في الدين والمجتمع، بل حتى في الطب والفضاء! لا يتركون موضوعًا إلا خاضوا فيه بثقة الجاهل، وجهل الواثق.
لقد امتلأت ساحتنا العربية بأصواتٍ تُحلّل وتُفتي وتنتقد دون علمٍ أو اختصاص، حتى باتت الفوضى في الرأي تحجب صوت الحقيقة. هؤلاء الذين يخلطون بين المعرفة والانطباع، وبين الخبرة والانفعال، ساهموا في تشويه الوعي العام وإرباك المشهد الوطني.
نعم، النقد حقٌّ مشروع، بل ضرورة لتصويب المسار، لكن شرطه أن يصدر عن معرفة ومسؤولية، لا عن رغبة في الظهور أو استعراض الفهم. فكما قال أجدادنا: "أعطِ الخبز لخبّازه ولو أكل نصفه"، لأن الخبرة تُكسب الرأي وزنه، والجهل يُفقده معناه.
إن إدارة الدولة، مثلها مثل فنّ الرسم، تحتاج إلى عينٍ خبيرة تعرف الظلّ من النور، وتُدرك متى تُمسك الفرشاة ومتى تتركها. وحين يختلط صوت الخبير بصوت الجاهل، تضيع الملامح، وتُشوَّه اللوحة.
فلنستعد إذًا حكمة الرسام  أبيلّيس في زمنٍ كثر فيه المتحدّثون وقلّ فيه المتخصّصون.
ولْيكن شعارنا الدائم: النقد مسؤولية، والمعرفة أمانة، والخبز لا يُخبزه إلا خبّازه..

مواضيع قد تعجبك