خبرني - قال الملك عبد الله الثاني بصوت لا يقبل الهمس، «لا ثقة بنتنياهو». عبارة قصيرة، لكنها أكثر انفجارًا من كل بيانات البروتوكول المصفّحة. ليست مجرد رسالة دبلوماسية موجهة إلى عواصمٍ تملأ جيوبها بالتصريحات الرحيمة، إنها صفعة في وجه الوهم ، إعلانٌ بَصَري بأن من حاول أن يلبس رداء الحمل لا يزال ذئبًا، وأن المواجهة القادمة لن تُحَلّ بكلمات لطيفة أو بمؤتمرات صحافية مُنسَّقة أو بمجاملات دونالد ترامب الهزلية .
هذا التصريح ليس هزة إعلامية عابرة ولا مادة للتداول بين صحفيي العواصم، بل جرس إنذار مفتوح على كل أبواب الدولة والمجتمع. إنه دعوة للإستيقاظ، أيها الأردنيون، استيقظوا لتعرفوا أن القادم أقسى مما توقعت العيون الوردية. فهنا لا نتكلم عن مناورة سياسية مؤقتة، بل عن تحول استراتيجي في الحسابات الإقليمية، عن عقلية في تل أبيب تُعتبر الصراع صناعة، والتهديد وسيلة بقاء. والمصيبة أن بعض العالم لا يزال يطلب منا «إثباتات»؛ بينما الحقيقة تصرخ في وجوهنا بلا ستار.
على الشعب الأردني أن يفهم عمق العبارة ووزنها، ليس من باب التشويق، بل من باب المسؤولية الوطنية. لا مجال للترقّب السلبي أو للإعتماد على وعودٍ قابلة للإنهيار. هذا التصريح يفتح نافذة على ما سيأتي وعلى وجوب تهيئة الوطن، سياسياً واجتماعياً وأمنياً، لإستقبال واقعٍ لا يرحم الهشاشة ولا يعترف بالإنتظار.
استيقظوا الأيام المقبلة لا تتسامح مع النائمين.بعد الآن. ليس انتظارا لخرق بروتوكولي، ولا لبرقية من قنصلية، ولا لبيان من مسؤول أوروبي راضٍ عن نفسه. القادم قاسٍ، والمنطقة لا تتحمل تأجيل الحقائق تحت حجج الصدفة أو بروتوكولات التهدئة.
دعونا نكون صريحين، ما يحدث ليس فشل تفاوضي عابر ولا خطأ تكتيكي يُصحح بنزهة على ضفاف البحر الأحمر. ما حصل هو تغير منظوماتي، نموذج حكمٍ في تل أبيب جعل من الصراع أداة مُربحة، ومن المواجهة منهجًا سياسيًا دائمًا.و نتنياهو الذي بات اسماً مرادفًا للرغبة في إبقاء النار مشتعلَة ليس مجرد سياسي عنيف. هو ترجمة عملية لفكرة أن الحرب قابلٌة للإستثمار، وأن استدامة الصراع أفضل من استدامة السلام. هذا ما يجعل القادم أخطر، ليست حربًا تُنهيها مفاوضات، بل دورة عنف تُدار وتُبَرَّمج لتصبح نَسَقًا سياسياً يستنزف الآخرين ويعيد إنتاج نفسه.
الأردن، عليه أن يقبل حقيقة بسيطة وصادمة، لا يمكن الإعتماد على وعود تتراقص بين لقاءين وبيانين. المنطقة لا تنتظر صكوك إثبات أو توقيع شخصية أمريكية محببة أو بغيضة، ليست في حاجة إلى دروس في الواقعية من أولئك الذين يعزلون الحقيقة عن مصالحهم. ترامب أو من يشبهه في القاهرة أو واشنطن لن يقدّم للعرب ضمانة أخلاقية، ولا أوراق اعتماد تضمن نهايةً سلمية لصراعٍ مُصمّم بمنهجية ليبقى.
وهنا تكمن المعضلة، يتوجب على الأردن أن يتحول من عقلية «التعايش الحذر» إلى عقلية «الاستعداد الواعي». وهنا هي ليست دعوة للعنف، بل للسياسة المدروسة والقرارات الجريئة. عندما تقول الدولة إن القادم صعب، فالمطلوب عملية إقلاع استراتيجي، مراجعة اتفاقيات، مراجعة تنسيق أمني يخدم استقرار الداخل لا مصالح طرف آخر، إعادة قراءة اتفاقية أوسلو وشروخها العملية، وضع خطط بديلة للأمن الغذائي والطاقة، لأن الخرائط التقليدية لم تعد صالحة.
لا بد من أن تُصدع عمان صوتها في المحافل الدولية بلا تلوين وبتفصيلٍ واضح، أن تسجل رفضها لإستغلال الصراع كأداة سياسية، وأن تُمَارِس الضغط الدبلوماسي المنظم لإيقاف منطق «ديمومة الصراع». ليس فقط ببلاغات تنديد بل بخطوات ملموسة، إعادة تقييم للعلاقات والإتفاقيات التي لم تعد تخدم الأمن الأردني، تشارك إقليمي فعّال مع مصر ولبنان وفلسطين بكل قنواتها الممكنة، وبناء تحالفات جديدة داخل المجتمع الدولي مع من لا يرى في الصراع بنية للتربح السياسي.
وفي الداخل، المطلوب تحصين المجتمع، تجهيزات طبية، خطط إخلاء، شبكات تحذير متطورة، وسرد وطني يعالج القلق الشعبي بصراحة، لا بتطمينات شكلية. فالأمن الحقيقي يبدأ من الثقة بين الدولة والمجتمع. وإذا كان البعض يظن أن الكلام عن (الإستعداد) يخيف الأسواق أو يربك الإستثمارات، فليعدّ على أصابعه، الإستثمار الحقيقي يبدأ عندما يشعر المواطن بالأمان، وليس حين تُطلى الشعارات بألوان براقة وهمية.
أما عن خطابنا الدبلوماسي تجاه الغرب وأمريكا فلا حاجة لأن ننتظر عطايا تأخرت أو تغنّت بالحياد. يجب أن نرفع مطالب واضحة، وقف الدعم غير المشروط لمن يمارس سياسات تُعزّز الصراع، فرض ضوابط على تصدير الأسلحة في حالات يتم فيها استخدام القوة بطرق تُخل بقواعد القانون الدولي، دعم عاجل للمدن واللاجئين المتضررين؛ والضغط من أجل فتح ممرات إنسانية لا شروط سياسية لها.
ونقطة أخيرة أضيفها لا مجال للمهادنة مع الخطاب الذي يُحاول بيع التطبيع كحلٍّ نهائي. التطبيع بدون عدالة تاريخية سيكون صكًا لإدامة نفس المنطق. الأردن يعرف هذا الدرس عميقًا، الإستقرار الحقيقي لا يبنى على التسويات السريعة، بل على عدالة تُعالج الجذور.
في المحصلة، المدخل الأردني الآن يجب أن يكون واقعيًا، جريئًا، ومُستعدًا لأصعب السيناريوهات. ليس من منطلق عدواني، بل من منطلق مسؤولية تاريخية وإقليمية، أن يحمي شعبه، أن يحمي مصالح الأردن ، وأن يعيد تعريف دوره الإقليمي من دولة تسعى لتهدئة كلامية إلى دولة تفرض شروطها على طاولة السياسة، لا أن تظل تدور حولها كدوران الشمس بلا فائدة عندما تقترب العواصف.
الوقت قد حان، يا عمان، ليس للإكتشاف، بل للعمل. القادم أخطر من أي خطابٍ راقٍ فهل أنتم مستعدون لأن تكونوا أكثر من مجرد مراقبين؟ فالزمن لا ينتظر الحائرين.....




