*
الجمعة: 05 ديسمبر 2025
  • 13 أكتوبر 2025
  • 14:50
الكاتب: أحمد سعد الحجاج

خبرني - في زاوية ساكنة من زوايا دارنا حيث الهدوء يتهامس والذكريات تتدلى من جدران الطفولة
 كانت "علبة التوفي" تقبع في مكانها الأثير لا على رفٍّ عالٍ، ولا في خزانة موصدة، بل في متناول اليد، كأنها جزءٌ من نبض الدار أو شاهدٌ على أيامٍ لم تغب.

علبة معدنية بسيطة، بهت لونها وتآكل طرفها، غير أنها ظلّت تحتفظُ بمهابتها، كأنها صندوق ذاكرة صغير يحتضنُ قلب الدار.
لم تكن تحوي التوفي، كما يُوحي اسمها، بل كانت تضمُّ أوراق الحياة:
من دفتر العائلة، وبطاقات التأمين الصحي العسكري، وفواتير الماء والكهرباء، وقاشونات الأرض والدار، وكل ما يُشكّل هوية الأسرة وعبق المسؤولية.

وكان والدي الحاج سعد محيسن الحجاج رحمه الله رحمةً واسعة 
 لا يرى في تلك العلبة مجرد صندوق من معدن، بل رفيقةَ عمرٍ تحفظُ سر البيت وتاريخه.

وذات صباح ، وأنا طفل صغير لم يعرف من الدنيا إلا لهوها، شدّني الفضول نحو تلك العلبة.
فتحتها بحذر، كمن يفتح بابًا على عالم غامض، فإذا بي أجد بين الأوراق قطعتين معدنيتين لامعتين شلن وشلن آخر، يشعان رغم غبار السنين.
لم أكن أعلم أنني أكتشفت كنزا صغيرا من كنوز الأب، فتهلّل وجهي كمن عثر على مفاتيح السعادة.

هرولت مسرعا نحو المطعم القريب، أعدّ الخطى كمن يسابق الفرح، وقدّمتُ القطعتين بكل فخر، فناولني صاحب المطعم رغيف سندويشةٍ صغيرةٍ، محشوّةً بما تيسّر  من البساطة والدهشة والفلافل 
أمسكتُ بها بكلتا يديّ، كأنني أحتضن العيد نفسه، وجلست على رصيفٍ قريبٍ ألتهم لقيمات لا تشبه إلا الطفولة... كانت لذّتها أكبر من الأرض، وأعمق من المعنى.

ذلك اليوم لم يكن مجرد جوع يُسد، بل كان درسًا في الحياة... في قيمة الأشياء الصغيرة، وفي فرح لا يقاس بما نملك، بل بما نشعر.
علّمني أبي دون أن يقول : ... أن الحبَّ يمكن أن يُختبأ في علبةٍ صدئة، وأن الحنانَ قد يتجلى في قطعتين معدنيتين، ثمن رغيف بسيط يملأ قلب طفل بالدهشة.
رحمك الله يا أبت
ما زالت علبة التوفي في الذاكرة، لا بصورة معدنها، بل بما حملت من دفء وسرّ وحنان أبويٍّ لا ينسى.
كانت تلك العلبة صندوقًا من حياةٍ صغيرة، وكنزًا من محبة كبيرة، ما زال يلمع في القلب كلما مر طيفك على وجدان العمر يا أبت.!!!

مواضيع قد تعجبك